يُعاد نشره: في الذكرى الخامسة من وفاته، محمد شريف النواصري: الأمل الموؤود 1/7

ظروف موضوعية تحضُّ على التبلور
منذ رحيل الفقيد محمد النواصري: الشخصية الأحوازية العربية المرموقة، وصورته الباسمة الضحوكة هي التي ترفرف على مخيلتي، كلما حضر القطر العربي الأحوازي في حديثي وباصرتي أو جرى النقاش السياسي حوله، تبدو قامته المديدة شامخة يحملها جسد قوي مفعم بالحيوية، وعيونه القلقة النفّاذة المفعمة بأمل لا محدود، تستقر في وجه دائري حنطي اللون، وهي تنبيء ـ فيما تنبيء إليه ـ عن ذكاء عربي فطري متوارث، تلك الهبة المتوارثة عن جينات أو عن القـُدرة السماوية المعروفة بـ((مفهوم الفراسة))، مجموع تلك الخِلال الجسدية والعقلية جعلت منه مشروعاً سياسياً قيادياً مأمولاً.
لكنه كان ـ وبشكلٍ مؤكد ـ يشكل لحظة وعي سياسي عام وشامل كلي، فيما يتعلق بالمسألة الأحوازية، كون ذلك الوعي السياسي التمثلي في الدماغ تدرج تـَمـَثــُل عناصره المعلوماتية والفكرية لبنة فوق لبنة ودرجة مبتدئة بعد درجة متمهلة، هو أرقى أشكال الوعي الثقافي في شتى الميادين، لذلك يمكن القول بخصوصه أنَّ حضوره السياسي قد مرق كالسهم المثقف كشهاب مضيء ولامع في سماءٍ معتمة الظلمة فخطف أنظار المتابعين : خصوم وأصدقاء، بسبب أنَّ جرأته وجرأته بالذات قد رفعت وتيرة التفكير الجدلي بالمستقبل السياسي للمنطقة الأحوازية بالآتي الغامض، ولكنه بدأ الطريق صحيح الخطوة ثابت الجـِنان هاديء الأعصاب يتفحص صلابة ما تحت قدمه قبل أي تحرك. كما هو في تقديري .
كانت هذه الملامح الشخصية الثرَّة قد بقيت عالقة في ذهني وراسخة في ذاكرتي، رغم أنَّ اللقاء العيني بهذه الشخصية ((الكارزمية)) وفق المفهوم المتداول في علم الإدارة السياسية، لم يتعد أصابع اليد الواحدة ، بلهَ لم يتجاوز المرات الأربع، على وجه التخصيص والتحديد، فمنحني الوعيُ عبر اِلتقائه الوعيَ العميق بهذه الظاهرة الإبداعية المتقدمة في مجالها التخصصي، كانت تلك اللقاءات تتوزع في مناطق هولندية مختلفة، بما فيها اِستضافتي له لليلة واحدة، ويتيمة، مع الأسف الشديد في مدينة ((كوخ آن دي زان))، التي تقع شمال غرب أمستردام : العاصمة الهولندية، تبادلنا خلالها أحاديث الهموم القومية العربية فكرياً : قال لي، وقلتُ له، وطال الحوار حول تلك النقطة التاريخية وتشعب الحديث حول هذه المسألة الاِجتماعية، وتعمَّـق النقاش بصدد ذلك المفهوم السياسي والفكري المقرون بتاريخ المنطقة أو غيره من المفاهيم الثقافية والاِجتماعية .
لقد دارت تلك الحوارات السياسية المعمَّـقـة المتشعبة التي تميزت بالثراء الفكري والاِكتناز المعرفي ، كان محتواها ـ أساساً ـ يدور حول مسائل عربية /تاريخية تجريبية في الماضي، لم يحضر فيها الـ((لو)) أو الـ((ربما))، إنما كانت تحدد معالم ذلك التفكير العالي الديالوجي الحواري : إنْ صح التعبير، والنطق المسموع من دون اِنفعال، أو ـ في بعض الأحيان ـ الخفيض الصوت المقرون بالإشارات اليدوية، وهي عادة مكتسبة بالتأكيد، كان خلالها الفقيد محمد يتجلى باِكتناز المعلومات الجغرافية العريضة والواسعة والعميقة، والغوص في طبيعة الواقع الاِجتماعي لجهة اِنتشار العنصر العربي في المواقع الجغرافية الإيرانية المختلفة، وخصوصاً في جوار المناطق البحرية، والملاحظة التي كان المرء يدركها أنَّ كل أحاديثه بخصوص جغرافية السكان العرب، توشـّيها أبعاد تاريخية مستخلصة من وقائع عينية، وتتوارد فيها الأرقام التفصيلية الدّالة على مفاهيم وآراء محددة . . . أرقام ذات دلائل أساسية بصدد أي حدث يرد ذكره في النقاش، سواء أكان يخص منطقة الأحواز العربية المحتلة خصوصاً، أو يشمل جغرافية العراق أو يسبر غور شؤون الوطن العربي، بشكل عام .
في هذه الليلة الوحيدة، واليتيمة كما قلنا أعلاه، تكومت عشرات الكتب والكراسات والمجلات المُستشهـَد بها، من تلك المصادر المعرفية التي تنير تفصيلات نظرية أو معلوماتية محددة حول هذه النقطة الجوهرية أو تلك، خصوصاً وإني عند ذِكر كل مفـْصَل تاريخي أو موضوع ثقافي، بل الأحرى في أي تطورٍ سياسي أو فكري شهده الوطن العربي، كنتُ أقول للفقيد الخالد: لقد كتبتُ حوله بعض الأفكار والآراء : وأحرص على تقديم ذلك المنجز أمام عيونه المتبصرة، تلك العيون التي تشي بملامح الذكاء الوقـّاد الواعد، أو أمتلكُ مصدر معرفي غني المعلومات ثر المفاهيم حول نشوئه أو تطوره أو مدى تأثيره في الواقع، ساعياً في الآن ذاته إلى مكتبتي الشخصية المليئة بالكتب والمراجع، مستلاً منها هذه النسخة أو تلك ، مما هو جدير بتقديمه له .
كان الفقيد محمد أملاً متنامياً ومتفائلاً ينمو في ذاتينا وعقلينا، ويشي باللقاء الدائم، كطموح وأمل موعود، ولكن ذلك الأمل قد تحول برحيله المفاجيء إلى أمل موؤود، ومع ذلك فقد ظل الأمل يحفزني قطعاً لضرورات الحديث المتواصل عنه، والرؤية السياسية المشتركة لكلينا ، فتدفعه للجزم ـ قبل رحيله المفاجيء ـ بأنه متى ما يستقر في منطقة معينة من هولندة ـ وإنْ كان مجبراً على الإقامة فيها بسبب حجز حريته ومنعه من الذهاب إلى بريطانيا حيث كان يرغب في الإقامة هناك ـ ستكون مكتبتي الشخصية التي تتضمن مئات العناوين الهامة وذات الشأن المتعلق بالشؤون العربية، هي المنجد له في كل ما يحتاج إليه من مصادر حول المعلومات المطلوبة، وربما يجد فيها أرقام تعزز أطروحاته السياسية .
كان عربي الروح، عربي الفكر عالمي المنهج، عربي النظرة والنزوع، كان متماهياً والعروبة كمفاهيم وأفكار وقناعات سياسية في كل أبعادها .
*كاتب عراقي مقيم في هولندا