آراء ومقالات

#أحوازنا – الحرس الثوري والمراوغة السياسية

إن الصراع العربي-الفارسي لم يتوقف منذ أن أسقط الأخمينيين الدولة العربية الكلدانية في السوس في شمال الأحواز عام 538 قبل الميلاد، وبالتأكيد لن يتوقف هذا الصراع المستمر منذ قرون في المدى القريب على الأقل. ومنذ أن أمسك رجال الدين زمام السلطة في طهران عام 1979، احتدم هذا الصراع أكثر من ذي قبل، وخاصة في الآونة الأخيرة. لذا لابد لنا نحن كعرب، وبكافة أطيافنا المجتمعية والفكرية، أن نعي خطورة المشروع القومي الفارسي المغلّف بالبعد الطائفي للدولة الإيرانية، والذي يُشكِّل الحقد التاريخي الدفين المكوِّن الأساس في بنية النظام الحاكم في طهران.

ولضبابية المشهد السياسي القومي الطائفي الفارسي الإيراني في نفس الوقت، لاسيما الإفرازات الكارثية لهذه الدولة القومية الثيوقراطية تجاه العنصر العربي والدول العربية برمتها، فلابد لنا في بادئ الأمر من قراءة ولو جزئية للمكونّات الرئيسة وطبيعتها، التي من شأنها أن تبسِّط فهم حيثيات المطبخ السياسي وآلياته الاستراتيجية في العالم العربي على وجه الخصوص.

وعليه، يمكن القول: إن بنية الدولة الإيرانية التي تستمد شرعيتها من الأوهام التاريخية الفارسية، ومزج هذه الأوهام بالمذهب الجعفري الإثنى عشري، والذي فُسِّر بمفاهيم فارسية شعوبية، غايتها إقصاء العنصر العربي، تُشكِّل في مجملها بنية الدولة الفارسية، بناءً على ثلاث ركائز رئيسة، يمكن تسميتها بـ “الأضلع الثلاثة”، وهي على النحو التالي:

أولاً: مؤسسة الحرس الثوري (سپاه پاسداران انقلاب اسلامی): وتفرعاتها العسكرية والأمنية والثقافية والاقتصادية.

ثانياً: مجلس صيانة الدستور، الذي يعتبر صمام الأمان لاستمرارية النظام الإيراني.

ثالثاً: مؤسسة بيت المرشد (الولي الفقيه أو ولي أمر المسلمين كما يسمى في إيران من قبل السلطات)، وعلاقتها التكاملية مع مؤسسة الحرس الثوري ومجلس صيانة الدستور في هندسة الدولة الإيرانية وسياستها العابرة للحدود.

ولفهم حيثيات هذه الركائز -أي هذه المؤسسات- الثلاث وعلاقاتها التكاملية، فلابد أيضاً من فهم طبيعة عمل هذه المؤسسات الحكومية وأهميتها في الدولة الإيرانية.

لذا ولأهمية الحرس الثوري الذي تأسس في الأيام الأولى لانتصار الثورة عام 1979، حدّدت المادة 150 من الدستور الإيراني، الدور الرئيس للحرس الثوري على أن تبقى قوات حرس الثورة الإسلامية راسخة ثابتة، من أجل أداء دورها في حراسة الثورة ومكاسبها. ونستشفّ من هذه المادة الدستورية أنّ: للحرس الثوري -أي سپاه پاسداران انقلاب اسلامی- مهاماً في غاية الأهمية، تخوّله أن يمسك بكافة مفاصل البلاد، وذلك من أجل حماية الثورة الإيرانية والتي ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا. ومن هذا المنطلق، فإنّ المهام التي حددتها اللجنة التي عينها الخميني لتأسيس الحرس الثوري في بداية الثورة بثمان نقاط للعمل عليها وتحقيقها في غاية من الأهمية، ومن أهم هذه المهام التي ترتبط بالنشاط الخارجي لمؤسسة الحرس الثوري، والذي يتركز جلّ نشاطها في العالم العربي، كالتالي:

  • محاربة المجموعات المسلحة التابعة للمنافقين، (القصد من مفردة المنافقين هنا: كافة القوى السياسية المعادية للثورة في الداخل والخارج).
  • الدفاع ضد الهجمات، والتصدي لنشاط التيارات والقوى السياسية التابعة للقوى الخارجية “المرتبطة بالأجنبي” داخل وخارج البلاد.
  • مساندة وحماية القوى التحررية، في نيل حقهم في العدالة من المستضعفين في العالم، تحت راية المرشد وقائد الثورة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ويتشكل الحرس الثوري من قوات الباسيج التي تعمل حصراً في الداخل الإيراني، وقوات فيلق القدس التي تعمل خارج حدود الدولة الإيرانية. فيما يتشكل الباسيج من قوات التعبئة والتي تعرف في إيران بــ “نيروهاى بسيج مردمى”، -كـالحشد الشعبي العراقي-، على سبيل المثال لا الحصر، كما أنها -أي قوات البسيج- قوات خاصة يتشكل عمادها من المتشددين قومياً ومذهبياً. ومن مهام هذه القوات فرض الأمن عند الضرورة وبالقوة المفرطة، مثلاً: في حال وقوع أحداث سياسية (الحركة الخضراء عام 2009 نموذجاً)، أو أحداث سياسية قومية في الأقاليم التي تسكنها الشعوب غير الفارسية، والتي باتت تأخذ منحى تصعيدياً، خاصة في العقد الأخير (الانتفاضة النيسانية لعرب الأحواز عام 2005، وحوادث أخرى لا تقل أهمية في كل من بلوشستان وكردستان وأذربيجان).

وأما قوات فيلق القدس، فإنها تعتبر من أهم الفروع الأمنية والعسكرية الخمسة التي يتشكل منها الحرس الثوري، ولضرورة الحرب وحاجة الجيش الإيراني في حرب الخليج الأولى للمعلومات الاستخباراتية ووجود أعداد كبيرة من العراقيين الموالين لطهران، تأسس فيلق القدس أثناء هذه حرب، وكانت جلّ مهامه داخل الأراضي العراقية حصراً، ويقدر أعضاؤه في الوقت الحالي بين 20 ألف إلى 50 ألف، ويرأس هذه القوات الجنرال قاسم سليماني، وبعد انتهاء الحرب وخاصة بعد سقوط بغداد عام 2003، واحتلالها من قبل الولايات المتحدة، وسّع فيلق القدس نشاطه ليشمل كافة الأقطار العربية، إلا أنه أخذ من بوابة دمشق مركزاً لنشاطه التخريبي في العالم العربي.

ويقع المركز الرئيس لهذه القوات في شرق طهران العاصمة، بالإضافة لعدة مكاتب أخرى إدارية واستخباراتية، ولاسيما فنادق ومنتجعات لاستقبال العرب الذين يعملون لصالح هذا الفيلق. ويمكن القول أيضاً، لكل دولة عربية مكتب خاص بها يقوم بالإشراف على سير العمل وتوجيه النشاط من طهران. كما نلحظ أن هنالك أهمية بالغة لنشاط هذه القوات في بعض أقطار العالم العربي كالعراق ودول الخليج العربي وبلاد الشام. وقد سخّر النظام في طهران الكثير من الإمكانيات المادية والإعلامية الضخمة لهذه القوات، لإنجاح عملها التخريبي في العالم العربي، كما توجد مكاتب لنشاط قوات فيلق القدس في كافة السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية الإيرانية في جميع دول العالم العربي، كما تشير المعطيات من الداخل الإيراني أن الحرس الثوري يسيطر على 70% من الاقتصاد الإيراني.

وأما فيما يخصّ مجلس صيانة الدستور، تُقرّ المادة 4 من الدستور الإيراني، والتي تُعتَبر من أصوله العامة، بأنّه: “يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها، هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً، ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك”.

وبالنظر لهذه المهام التشريعية والقضائية الدستورية الواسعة المنوطة بمجلس صيانة الدستور، تفيد المادة 99 من الدستور الإيراني بأنّ “مجلس صيانة الدستور يتولى الإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وعلى الاستفتاء العام في البلاد”. إلا أنّ من أهمّ المهام المنوطة بمجلس صيانة الدستور، والتي دائماً ما كانت مثاراً للجدل في الشارع الإيراني، وهي الرقابة على المرشحين للانتخابات، والتحقّق من ولائهم لنظام ولاية الفقيه، وتسجيل أسمائهم، ولاسيما الرقابة على عملية الانتخابات بمجملها، لذلك يمكن القول أن مجلس صيانة الدستور يعتبر “فلتر النظام” وصمام الأمان بالنسبة لنظام رجال الدين في طهران. لذا، نرى بوضوح شديد لا لبس فيه، أن المادة 91 من الدستور الإيراني، مكّنت المرشد (قائد الثورة) من أن يتحكم بمجلس صيانة الدستور وقراراته المصيرية للبلاد، بحيث في واقع الأمر المرشد هو من يختار أعضاء مجلس صيانة الدستور الإثني عشر، ستة أعضاء منهم من الفقهاء يختارهم بصورة مباشرة، والستة الآخرون يختارهم رئيس السلطة القضائية الذي يختاره المرشد نفسه. والطريف في الأمر، أن عدد أعضاء مجلس صيانة الدستور يساوي عدد أئمة أهل البيت الإثنى عشر!

وأما بيت القصيد في الدولة الفارسية فهو مؤسسة بيت المرشد (الولي الفقيه) وعلاقتها التكاملية مع الحرس الثوري ومجلس صيانة الدستور، ومن الجدير ذكره في هذه الركيزة الهامة، أن كثيراً من المتابعين للشأن الإيراني يتصوّرون أنّ المرشد المتمثل بشخص علي خامنئي هو الحاكم الآمر والناهي في الدولة الفارسية، وهو من يسيّر كافة السياسات الإيرانية وممارساتها التخريبة في العالم العربي، وقد يكون جانب من هذا التصور صائباً إلى حد ما، لكنه بالتأكيد تصور منقوص.

ففي حقيقة الأمر، وبما أن المكان الطبيعي للمرشد في هيكلية النظام السياسي الحاكم في إيران، يأتي في هرم السلطة ومؤسساته الدينية والسياسية المترامية الأطراف، بإمكانياتها البشرية والروحية والاجتماعية والاقتصادية، فلابد من التحكم بالدولة والجماهير من الهرم ليس إلا، كما أن الولي الفقيه يستمد شرعيته من مفهوم نائب الإمام المهدي عند المذهب الشيعي. وفي هذا السياق أيضاً، فإن كافة الأنشطة للفروع التابعة للمؤسسة الدينية التي يشرف عليها المرشد هي أنشطة وممارسات ممنهجة بامتياز تهدف لتحقيق أهداف محددة ومعينة بدقة.

 لذا، تعتبر العلاقة بين المرشد -ولي أمر المسلمين- ومجلس صيانة الدستور ومؤسسة الحرس الثوري الإيراني العسكرية والأمنية والثقافية والاقتصادية، علاقة عضوية تكاملية بامتياز، تكفل استمرارية النظام وديمومته في جغرافية إيران السياسية من جهة والمنطقة العربية من جهة ثانية. وعليه، لو افترضنا جدلاً أنالمرشد -قائد الثورة الإسلامية- الهرم الرئيس في هيكلية النظام الجمهوري الإسلامي في إيران، وهو من يُسيّر الجماهير، فإن مجلس صيانة الدستور، هو الجهاز النافذ بيد المرشد الذي يغربل الخصوم السياسيين من الداخل لهذا النظام السياسي الطائفي القومي الفارسي. وأما الحرس الثوري ومؤسساته العسكرية والأمنية المنتشرة في طول وعرض البلاد، فمهمتها حراسة الثورة ومكتسباتها دون رادع أبداً.

كما أنّه -أي الحرس الثوري- بات فاعلاً رئيساً في المشهد السياسي الإيراني، يؤثر سلباً وإيجاباً، حيث قال المرشد علي خامنئي عن الحرس الثوري في عام 2013: “إن الحرس الثوري قام بإعداد أفضل المدراء لتستفيد منهم الأجهزة الحكومية”. لذا، من الطبيعي بمكان أن يصرّح علي سعيدي، ممثل المرشد في الحرس الثوري، قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2013)، والتي فاز فيها حسن روحاني، قائلا ً: “إنّ هندسة الانتخابات بشكل منطقي ومعقول من قبل الحرس الثوري، وظيفة جوهرية”.

وبالنظر لما تداوله الإعلام العربي في الأيام الماضية، عن وساطة كويتية بين المملكة العربية السعودية وإيران بناءً على طلب الأخيرة، لفتح صفحة جديدة في العلاقات البينية، قد يكون هذا الطلب من هندسة هذه الركائز الثلاث وبالتحديد الحرس الثوري كما فعلها عام 2013، عندما جاء بالرئيس حسن روحاني ليكمل المفاوضات السرية التي بدأها قادة الحرس الثوري مع الولايات المتحدة، في عاصمتين عربيتين قبل خمسة سنوات. إذاً، لابد من التذكير والتمعن جيداً بما قاله الجنرال قاسم سليماني، الرجل القوي في المطبخ السياسي الإيراني، خلال لقائه وفداً من حركة حماس الذي زار طهران مؤخراً، والحر تكفيه الإشارة. حيث قال سليماني للوفد: “كانت للدكتور محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني مهمة محددة وواضحة، وهي الاتفاق النووي ولم توكل له أية مهمة أخرى على الإطلاق أبداً”.

بقلم: جمال عبيدي

30 مارس 2016

المصدر: مركز المزماة للبحوث والدراسات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى