ثم رقدوا بسلام

نبهت جدتي و نحن نتسامر في الفضاء المكشوف إلى منظر أربعة شهب تخر سريعا ثم تتشظى و تتلاشي في الأفق البعيد ، فما كان منها إلا أن تحوقلت و سبحت و استغفرت , و عندما سألتها عن سبب هذا التحوقل و التسبيح و الاستغفار المفاجئ، قالت لي إنها علامة على موت أربعة ملوك أو عظماء أو ذوي شأن عظيم. لم يشأ القدر أن يكذب نبوءة تلك العجوز، و لم يمض على نهار اليوم التالي إلا سويعات قليلة حتى جاء الخبر بإعدام أربعة أبطال من أحرار الأحواز، إنهم علي الشريفي و طه و عباس و عبد الرحمن أبناء طعمة الحيدري .
كنت قبلها و بالصدفة المحضة قد سألت أحدهم عن سبب عدم رضاهم بالعيش في وداعة و سكينة تحت ظل حكم الدولة الإيرانية الذي يتفجر إسلاما و إيمانا .فجاوبني و دمع العين يسبقه،كيف لي أن أستكين و قد ضاعت الطرق من خطوات نخطوها على طريق الإنسانية؟ ،كيف لي أن أستكين و ليلنا خوف من الكلاب الضالة و زوار الليل و نهارنا ذل و هوان؟ . كيف لي أن أستكين و حبل المشنقة شر مرحب بأبناء بلدي بذنب أو بلا ذنب و أعناقهم خير مسلمة له؟، كيف لي أن أستكين و أنا أراهم يسرقون لقمة العيش من أفواه أطفالي و أطفال جيراني،و نبيت جميعا على الطوى و نحن أول من أقرى الضيف ؟ كيف لي أن أستكين و أنا أراهم يشربون نخب عربدتهم علينا و يتراقصون على أنغام تعذيبنا و هواننا؟، كيف لي أن أستكين و قد سرقوا منا هويتنا و عطر حروفنا؟ ،كيف لي أن أستكين و حرائرنا تنادي منذ أكثر من خمس و ثمانين عاما على المعتصم مستنجدة به و يرجع الصدى بأن المعتصم مات قبل ألف ومئتي عام و لن يعود.و عليكم الاعتماد على أنفسكم. بالله عليك قل لي كيف أستكين و أهادن؟ . أخذ نفسا عميقا ليكمل أسباب عدم استكانته إلا أنني – و اشفاقا مني عليه و خوفا أن يصيبه مكروه- قاطعته معلنا له أن الرسالة و صلت و فهم مضمونها.
في معتقل كارون سيء الصيت و السمعة ساقوهم الى حيث تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة كي يفرغوا في أجسادهم الطاهرة كل حقدهم ، و يبثوا فيها كل سموم العنصرية الدفينة. لم يستجد الأبطال جلاديهم و جلاوزة النظام الحاقد، و لم ترتعد فرائصهم خوفا من المصير المحتوم المنتظر، بل كانت مشيتهم مشية الواثق بنصر الله. كانت مشيتهم مشية العريس يوم زفافه فرحا مزهوا مستبشرا بغد أفضل. كانوا واثقي الخطوة كما الملوك ، ليس ذلك فحسب بل عندما وقفوا في مواجهة الموت كبروا و كبروا حتى تصاغر الموت أمام بريق عيونهم و هم يلوحوا بأيديهم مودعين لوطن طالما عشقوا كل ذرة رمل فيه و تغنوا بولادته حرا منعتقا من أغلال الغاصبين في لحظات الوداع الأخيرة وابتساماتهم ملأت وجوههم النيرة ، و ملأت الآفاق أملا. و لم تكن الخنساء أقل شجاعة من أولادها، تلك المراة الصابرة المحتسبة التي كانت تتراقص و تهوس أمام فلذات أكبادها متوعدة بتقديم المزيد إن استطاعت.اعتلوا مشانقهم كفرسان يمتطون ظهور جيادهم، و لم يكن لهم من وصايا إلا وصية واحدة، لقد سرنا على درب نتمنى على الذين من خلفنا أن لا يقفوا في منتصفه، بل عليهم أن يكملوا هذا الدرب إلى آخره.حتى لو فني الجميع، و يكفي أن يولد طفل أحوازي واحد، نعم طفل أحوازي واحد يستنشق عبير الحرية و الإنفلات من القيد العنصري البغيض.
و هكذا تموت الرجال كما النخيل واقفة لا تنحني إلا لخالقها.
هاهم شهداؤنا يتقاطرون غيثا كلما جفت الأرض ،يتناثرون ضوءا كلما
احتدم الظلام ،وعطرٌ من الياسمين يشيّع أرواحهم كل ليلة مابين جنة و جنة.
أسلموا أرواحهم للسماء ، وأجسادهم للأرض،وكثيرٌ من أمل كان يسكنهم فأصبح بهم ،لم يكتفوا برسم الحلم بل أضاؤوه،ليكون الحلم من جديد ثم رقدوا بسلام .
نموت ويحيى الوطن
فاضل [email protected]