آراء ومقالات

بعد انتفاضة الأنبار: العراق إلى أين؟

لم تكن الانتفاضة الأخيرة في العراق، مفاجأة للذين تابعوا مسيرة الحراك السياسي
في أرض السواد، منذ وطأت سنابك خيول الاحتلال الأميركي بلاد ما بين النهرين. فبعد أقل
من أربع وعشرين ساعة، على سقوط عاصمة العباسيين، بغداد انطلقت المقاومة العراقية الباسلة،
ضد المحتل والقوى التي تسللت للبلاد على ظهور دباباته. وسجلت أسرع نمو، في تاريخ حركات
التحرر الوطني، فارضة على الجيش الأميركي، التراجع عن المدن الرئيسية، والانكفاء بالقواعد
العسكرية، التي أسسها في عموم العراق.

وعلى عكس ما وعدت به الإدارة الأميركية، بعراق جديد، مستند على الديموقراطية
والتعددية، والندية والتكافؤ واحترام مختلف مكونات النسيج العراقي، دشن المحتلون، بالتحالف
مع الميليشيات الطائفية، وبالتنسيق مع الجمهورية الإسلامية في إيران، عملية سياسية،
استندت على القسمة بين الطوائف، وتفتيت النسيج العراقي، الذي تميز بالخصب وبالتنوع،
إلى مكونات متناحرة ومتنافرة، همشت جزءا رئيسيا من المكون التاريخي لحضارة ما بين النهرين.

المظاهرات التي اندلعت الأسابيع الأخيرة، في عدد من المدن العراقية، هي تعبير
حقيقي عن حالة الغضب والاحتقان التي سادت عددا كبيرا من مدن العراق. لقد شملت الانتفاضة
مدنا رئيسية، كالفلوجة والرمادي وتكريت وسامراء والموصل وكركوك. ورغم أن السبب المباشر
لاندلاع هذه الانتفاضة، هو إقدام وزارة الداخلية، في حكومة نوري المالكي، على اعتقال
أفراد حماية وزير المالية، رافع العيساوي، وتوجيه تهم ارتكاب جرائم إرهاب بحقهم، فإن
ما طرح في الانتفاضة من شعارات ومطالب، عبر عن عمق الأزمة التي يمر بها المجتمع العراقي
في هذه اللحظة المفصلية من تاريخه.

لقد رأى المتظاهرون في حادثة الاعتقال، تصفية لحسابات سياسية، بين مختلف الغرماء
من المشاركين بالعملية السياسية. وذلك، أمر بديهي حدوثه، في بلد شيد المحتل بنيانه
السياسي على أسس المحاصصة والقسمة بين الطوائف الدينية والأقليات القومية. وهكذا انطلقت
التظاهرات، في بداياتها، من الفلوجة، المدينة التي عرفت بمقاومتها الطويلة والقاسية
للاحتلال. وتركزت الشعارات على اتهام المالكي، بالطائفية والفساد، وخوض معركة ثأرية
من الخصوم، وإلصاق تهم الإرهاب بحقهم، وتوجيه الصراع نحو الطيف المذهبي السني، واستخدام
قضاء فاسد، لمساندة رئيس الحكومة، في مواجهة خصومه.

اعتقال أفراد حماية العيساوي، هو القشة التي قصمت ظهر الجمل. فبعد ما يقرب من
عشر سنوات على الاحتلال، ومرور عام على انسحاب الجيش الأميركي، لا يزال العراق مثقلا
بالكثير من الأزمات، على كل الأصعدة، آخرها أزمة المناطق المتنازع عليها بين السلطة
المركزية وحكومة كردستان شمالي العراق. إن حالة الاحتقان التي يعاني منها العراقيون،
بسبب تفاقم الأزمات، هي التي تفسر عنف الانتفاضة، التي وصفت بالثورة، وتفسر أيضا تطور
مطالب المتظاهرين، من إطلاق سراح النساء المعتقلات، ومحاسبة الضباط الذين انتهكوا أعراض
السجينات ومارسوا الاغتصاب، إلى المطالبة بإطلاق سراح السجناء من الرجال الذين يتجاوز
تعدادهم السبعمئة ألف معتقل، يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والمهانة. وخلال أيام قليلة،
ارتفع سقف المطالب ليشمل المطالبة بمحاكمة رأس السلطة، الذي تغاضى عن انتهاك الحريات،
بما أدى إلى ارتكاب ما وصف بجرائم إبادة.

طالب المتظاهرون أيضا، بمحاسبة اللصوص وسارقي المال العام، لتشمل عددا كبيرا
من المسؤولين في الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ عام 2003 وحتى تاريخه. لقد اتهم
هؤلاء بتبديد الثروة في أوجه صرف وهمية، في الوقت الذي يعاني منه المواطن من الفاقة
والجوع، وفقدان أبسط مستلزمات العيش الكريم. تسببت الأوضاع البائسة، في ارتفاع وتيرة
الاستياء، لدى عموم العراقيين. فالبنية التحتية، التي دمرها القصف الهمجي، بقيت دون
إصلاح، حتى هذا التاريخ. فلا كهرباء ولا أجهزة صرف صحي، ولا اهتمام بالصحة أو بشبكة
الطرق والمواصلات. لقد أدى السطو على مقدرات العراق، إلى تحوله لمصاف أفقر الدول. ولذلك
تمثل الانتفاضة الحالية، بداية ثورة حقيقية على الظلم والفساد، والطائفية وسياسات الإقصاء.

لا شك في أن ما يحدث الآن في العراق، هو تحول رئيسي في مسار مناهضة الفساد والظلم
والاستبداد. إنه انتفاضة مشروعة تطالب بتحقيق المساواة، وأن يستقيم ميزان العدل. لكن
اقتصارها على المناطق التي يشكل الطيف السني غالبية سكانها، بالمناطق المتعارف عليها
منذ الاحتلال، بالمثلث السني، يسم الانتفاضة بالطائفية، ولا يجعلها معبرة عن إرادة
غالبية العراقيين.

ينبغي أن تطغى شعارات الانتفاضة على ما يعزز من الوحدة الوطنية، والقواسم المشتركة
بين العراقيين، وألا تخضع لقانون رد الفعل، فتستخدم ذات اللغة، التي تستخدمها الميليشيات
الطائفية. العراق الذي يتطلع له الغيارى والمؤمنون بوحدته، ينبغي أن يكون الخيمة التي
يستظل بفيئها جميع مواطنيه، بغض النظر عن مذاهبهم ودياناتهم وأعراقهم. والمطلوب ليس
التركيز على الحقوق الطائفية، بل تعميم مفهوم المواطنة، والندية والتكافؤ والمساواة
في الحقوق بين جميع العراقيين. وكذلك الحفاظ على عروبة العراق كيانا وهوية. إن اقتصار
التظاهرات على المناطق التي يحضر فيها الطيف السني بكثافة، وعدم امتدادها لوسط وجنوب
العراق، من شأنه ترسيخ المشكلة الطائفية، التي عمقها الاحتلال، والميليشيات الطائفية،
وكان من نتائجها المباشرة تفتيت العراق، وإعادة تشكيله، بتغليب الهويات الجزئية.

ما يعزز من خشيتنا هذه هو خروج مظاهرات، في هذا الأسبوع، بمدينة بغداد ومحافظتي
النجف وكربلاء، مؤيدة لرئيس الحكومة نوري المالكي، ومنددة بالانتفاضة الشعبية التي
تطالب بالإصلاح والتصدي للفساد ونهب المال العام. إن ذلك يعني انقسام المجتمع العراقي،
في موقفه السياسي، وهو انقسام لا تمليه المصلحة الوطنية، بل هو النتيجة المنطقية للاصطفاف
الطائفي، بما يهدد العراق ومستقبل وحدته. ولن نأتي بجديد، حين نذكر بأن الصراعات الطائفية
هي في محصلتها، اتساق مع المشاريع الصهيونية والغربية، التي جرى الإفصاح عنها منذ عدة
عقود، والهادفة لتحقيق سايكس

– بيكو جديدة،
وشرق أوسط كبير – جديد، ينبثق من رحم الفوضى الخلاقة، بحسب تعبير رامسفيلد وكونداليزا
رايس، وإذا ما تواصلت حالة الصراع الطائفي، فإن نتيجتها الطبيعية، هي تفتيت العراق
لثلاث دول. دولة كردستان في شمال العراق، وقد أصبحت أمرا واقعا، ودولة شيعية في الجنوب،
وأخرى سنية فيما صار معروفا بالمثلث السني، لتضيف إلى تجزئة الأمة، تجزئة جديدة تشمل
الكيانات الوطنية العربية، في كل مكان في متتاليات يبدو ألا نهاية لها.

 

المصدر: الوطن أون لاين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى