كتب ودراسات

الاحتلال الإيراني للأحواز، ومبدأ قدسية الحدود الموروثة في القانون الدولي

دراسة تأصيلية مقارنة

مقدمة

ظهر مبدأ ” قدسية الحدود الموروثة ” في مجال القانون الدولي أول مرة، لإضفاء المشروعية القانونية على ملكية الأراضي، التي تقع في حوزة الأطراف المتحاربة بحكم الواقع بعد نهاية الحرب وعقد اتفاق سلمي (١)، ثم ما لبث أن تطور ليصبح أحد الحقوق المتأصلة في القانون الدولي والمواثيق الدولية،؛ التي تعطي الحق للشعوب المستعمرة بممارسة سيادتها الأصلية على أراضيها، حال انتهاء الاحتلال وانتهاء الصراع بين القوى العظمى، ثم تطور المبدأ وأصبح أحد المبادئ الهامة في القانون الدولي، بعد أن تبنته شعوب أمريكا اللاتينية بعد استقلالها من الاستعمار الأسباني أوائل القرن التاسع عشر، لحفظ وحماية الوضع الراهن للحدود الموروثة عن الاستعمار، واعتبار كل أراضي أمريكا الجنوبية مملوكة، ولا توجد أراضي خالية ليست ملكاً لأحد، وذلك من أجل إبعاد القوى الأوربية الاستعمارية، حتى لا تتعرض القارة مرة أخرى للاحتلال (٢)، وذلك بعد أيلولة الدول إلى أصحابها الأصليين، الذين لهم الحق التاريخي والثقافي في ممارسة سيادتهم على أرضهم.

إن المتتبع لتاريخ القضية الأحوازية، يلاحظ أنها أصبحت اليوم الاستثناء الوحيد في العالم، التي لم يُطبق عليها بعد، مبدأ قدسية الحدود الموروثة، بالرغم من خروج المستعمر البريطاني من الأحواز، وبالرغم من الدلائل التاريخية لقيام الإمارة الأحوازية واستقلاليتها، وبالرغم أيضاً من استثناء الحالة الأحوازية من ” مبدأ عدم تغيير الحدود الدولية”، بسبب عدم انقطاع التقادم المكسب، الذي تؤكده تواريخ ووقائع الثورات الأحوازية المتلاحقة.

أولاً- نشأة وتطور مبدأ قدسية الحدود المورثة عن الاستعمار:

مبدأ الحدود الموروثة Uti possidetisهو مبدأ في القانون الدولي، يُقر  بأن الأراضي والممتلكات الأخرى، تظل ملكًا لمالكها الأصلي في نهاية الصراع، وأنّ الأراضي التي تم الاستيلاء عليها أثناء الحرب، هي ملكية مؤقتة ومنقوصة بحكم واقع الصراع، وهذه القاعدة تشكل المجال الحيوي لتطبيق مبدأ الحدود الموروثة (٣).

نشأ هذا المبدأ في القانون الروماني، فالعبارة مشتقة من التعبير اللاتيني uti possidetis, ita possideatis،  بمعنى “ستستمر في امتلاك ما تملك مثلما كنت تمتلكه”، أو “بما أنها ملك لك، فهي ملك لك”. وإذا كان هذا المبدأ قد طُبق تجاوزاً بين الدولة المتحاربة لإضفاء مشروعية الاستعمار خلال الحرب، ولكن الأساس القانوني لهذا المبدأ في فقه القانون الدولي، إنما يعود لفكرة مؤداها ” ما أن تنتهي الحرب، فإن الأوضاع القانونية لحق الملكية تعود على ما كانت عليه”. وهي الفكرة التي شكلت الأساس القانوني الذي شرعن للكثير من الشعوب بعودة سيادتها على أراضيها فور انتهاء الاحتلال، أو انتهاء الحرب، وبشكل آلي وتلقائي، تماماً كما حصل في غالبية الدول التي استقلت في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

١- قدسية مبدأ الحدود الموروثة : تجارب تاريخية تؤكد الحق الأحوازي :

في أوائل القرن السابع عشر، استخدم جيمس الأول ملك إنجلترا هذا المصطلح، لبيان للقول أنه وبالوقت الذي يعترف فيه بوجود السلطان الإسباني في تلك المناطق من نصف الأرض الغربي؛ حيث تمارس إسبانيا سلطاتها القوية، فإنه يرفض الاعتراف بمزاعم إسبانيا بملكيتها الحصرية لجميع الأراضي بموجب معاهدة توردسيلاس، التي تسنتد في بنودها لمبدأ قدسية الحدود الموروثة.

وقد ورد ذلك في قرار التحكيم بشأن الحدود بين كولومبيا وفنزويلا الصادر عام ١٩٢٢ فقد نص على: ” عندما أعلنت المستعمرات الأسبانية في أمريكا الجنوبية استقلالها في العقد الثاني من القرن التاسع عشر؛ تبنوا في عام ١٨١٠ أحد مبادئ الدستور والقانون الدولي، أطلقوا عليه اسم ” أوتي بوسيتيديس أو الحدود الموروثة”، لتأكيد أن حدود الجمهوريات التي تأسست حديثاً ستكون حدود المقاطعات الأسبانية التي آلت لهم، وتميز هذا المبدأ العام بوضع حكم مطلق يفيد أنه بحكم القانون لا توجد أي أرض في أمريكا الأسبانية السابقة بدون مالك أصلي لها، بالرغم من وجود العديد من المناطق التي لم يتم احتلالها بواسطة الأسبان، وعدة مناطق لم يتم اكتشافها، أو مناطق يسكنها الأقوام الأصليون. وتقرر أن تؤول ملكية هذه المناطق بالأحقية إلى الجمهوريات التي تم إلحاق هذه الأراضي بها بحكم قانون ملكي قديم صادر من الوطن الأم أسبانيا.

ورغم أن هذه الأراضي غير محتلة، فقد تم اعتبارها بأنها محتلة قانونياً بواسطة الجمهوريات الجديدة منذ اللحظة الأولى. وتم اعتبار أي تغوّل ومحاولة للاستعمار من الجانب الآخر للحدود، أو أي احتلال بحكم الواقع عديم المعنى، ولا تترتب عليه أي نتائج قانونية. وتميز هذا المبدأ باستئصال النزاعات الحدودية بين الدول الجديدة. وأخيراً استبعد هذا المبدأ محاولات الدول الأوروبية الاستعمارية لغزو أراضي جديدة في أمريكا الجنوبية (٤).

٢- القضية الأحوازية في إطار مبدأ الحدود الموروثة أو (مبدأ أوتي يوسيتيديس):

تشكل القضية الأحوازية، علامة فارقة في القانون الدولي، تؤكد انتهاك مبدأ قدسية الحدود الموروثة، فانتقال ملكية الأراضي وأماكن حدودها من الدولة الاستعمارية السابقة ( بريطانيا) إلى دولة جديدة ( إيران)، وبالإضافة لمبدأ الترسيخ التاريخي لحقق الملكية في القانوني الدولي، الذي يؤكد بما لا يدعو للشك، وجود المكونات العربية الأحوازية من القبائل العربية عبر الحضارات والتاريخ، كما تؤكدها الحدود ما بعد نهاية الدولة العثمانية، وممارسة السيادة على إمارة الأحواز بقيادة آخر أمرائها الامير خزعل بن جابر؛ والحدود للدولية التقليدية الحديثة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي يؤكد تشيكل الحدود الشرعية للدولة الأحوازية. كما ينطبق على السابقات القانونية التي تم من خلالها تطبيق  المبدأ كأساس للملكية القانونية، كالتي تبنتها الدول التي تعاقبت على حكم المناطق التي كانت تحكمها الإمبراطورية الأسبانية، علماً أنّ هناك الكثير من الدول قد حصلت على استقلالها استناداً لمبدأ قدسية الحدود الموروثة من الاستعمار بحكم الواقع. ففي البرازيل اختلف الأمر بعد استقلالها عن الاستعمار البرتغالي، وقد تم تفسير المبدأ باعتباره حيازة ملكية الأرض بحكم الواقع، ولا يشترط إثبات قانوني لملكيتها (٥).

وعلى هذا الأساس، واستناداً لمبدأ قدسية الحدود الموروثة في القانون الدولي، فإن انتقال ملكية الأراضي الأحوازية بحدودها المرسومة أبان فترة أمارة الشيخ خزعل إلى الاحتلال الإيراني، يشكل انتهاكاً صارخاً لهذا المبدأ، وبالتالي فإن انتقال السيادة الأحوازية إلى إيران، يشكل انتقالاً من سيطرة دولة بريطانيا إلى احتلال دولة جديدة ( إيران). وبالتالي انتهاكاً لمبدأ صارخاً لمبدأ قدسية الحدود الموروثة، وانتهاكاً لمبدأ السيادة في القانون الدولي، الذي يكفل الحماية والاستقرار للأراضي الإقليمية للأحواز، بمجرد خروج الاستعمار البريطاني تطبيقاً لمبدأ ” قدسية الحدود الموروثة أو أوتي بوسيتيديس”. ما يعني عودة السيادة الأحوازية ، عودةً شبهها القانون الدولي بالصورة الفوتوغرافية لوضع الأراضي الموجودة قبل الاحتلال. وبالتالي، فإن مبدأ الحدود الموروثة، في إطار سيطرة بريطانيا لملكية الأراضي الأحوازية، إنما هي ملكية تعود إلى وضعها قبل الاحتلال البريطاني، وليس إعادة تدوير احتلالها مرة أخرى من قبل إيران. لذلك لا يعطي القانون الدولي، أي تجـــديد للقانون الذي وضعته الدولة الاستعمارية بشان الأراضي التي احتلتها.

ثانياً- القضية الأحوازية و مبدأ قدسية الحدود الموروثة، في إطار محكمة العدل الدولية:

طبقاً لهذا المبدأ تتحول الحدود الإدارية الداخلية التي رسمها الاستعمار بين مستعمراته إلى حدود دولية بعد استقلال الدول الجديدة عنه مباشرة ، الأمر الذي يعطي هذه الشعوب المستعمرة، الحق في فرض سيادتها على الأراضي الإقليمية التي كانت تحت سيادتها قبل الاحتلال، فقد أكدت ذلك محكمة العدل الدولية عند النظر في قضية بوركينافاسو ضـد مالي، بقولها ” يقع جوهر مبدأ قدسية الحدود الموروثة في هدفه الأساسي، تأمين الاحترام لحدود الأراضي الإقليمية في لحظة أنجاز الاستقلال أو انتهاء الاحتلال. وبالتالي، فإن لحظة خروج الاستعمار البريطاني من المنطقة، يشكل اللحظة التاريخية لتمتع الشعب الأحوازي بسيادته، وهنا يختلف الحال في الحالة الأحوازية، ليتأكد أكثر فأكثر انتهاك مبدأي السيادة الوطنية ومبدأ قدسية الحدود الموروثة على حد سواء، لاسيما وأنّ الاحتلال الإيراني كان قد حصل كفعل مادي خلال سنة ١٩٢٥ ، في الوقت الذي كانت فيه الإمارة الأحوازية تمارس كامل سيادتها. و هو ما يتعارض أيضاً مع مبدأ قدسية الحدود الموروثة، الذي تضمن ” أنّ الحدود هي مجرد ترسيم بين تقسيمات إدارية مختلفة، أو مستعمرات تخضع كلها للسلطة الاستعمارية صاحبة السيادة أثناء الاحتلال، وفي هذه الحالة ينتج عن تطبيق مبدأ قدسية الحدود الموروثة، تحول الحدود الإدارية إلى حدود دولية بكل ما يحمله المصطلح من معاني (٦). وعليه، فإن لحظة خروج المحتل البريطاني، يشكل وثيقة تاريخية ترسم حدود الدولة الأحوازية المحتلة الآن من إيران.

وقد استخدمت هذه الفرضية منذ زمن قريب في تحديد حدود الدول التي حصلت على استقلالها حديثًا عقب إنهاء الاستعمار،  وذلك بالتأكيد على أن الحدود ستتبع الحدود الأصلية للمناطق الاستعمارية القديمة التي نشأت منها. ولقد نشأ هذا الاستخدام في أمريكا الجنوبية في القرن التاسع عشر مع انسحاب الإمبراطورية الإسبانية (٧). فمع إعلان تطبيق مبدأ الحدود الموروثة، عملت الدول الجديدة على ضمان عدم وجود أرض مباحة في أمريكا الجنوبية بعد انسحاب الإسبان، والحد من احتمالية نشوب صراعات حدودية بين الدول المستقلة حديثًا، وإنشاء مستعمرات أوروبية حديثة. كما تم تطبيق المبدأ نفسه في أفريقيا وآسيا عقب انسحاب القوى الأوروبية من تلك القارتين، وفي أماكن مثل يوغوسلافيا السابقة، والاتحاد السوفيتي حيث سقطت الحكومات المركزية السابقة، وحصلت الدول الأعضاء على استقلالها. وقامت منظمة الوحدة الإفريقية عام ١٩٦٤ بتمرير قرار ينص على حتمية تطبيق مبدأ استقرار الحدود – جوهر مبدأ الحدود الموروثة – في جميع أنحاء قارة إفريقيا. فلقد كانت معظم الدول الإفريقية قد حصلت على استقلالها في ذلك الوقت، لذا كان القرار أساسًا بمثابة توجيه سياسي لحسم الصراعات بإقرار معاهدات تقوم على الحدود القائمة مسبقًا بدلاً من اللجوء إلى القوة.

أدى الالتزام بهذا المبدأ إلى تجنب اشتعال الحروب الحدودية بين الدول الإفريقية، ولكن هناك حالة استثنائية بارزة في هذا الصدد وهي الحرب الإثيوبية الإريترية التي استمرت ما بين عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٠، وترجع جذور تلك الحرب إلى انفصال دولة إفريقية مستقلة، فتلك الحرب ليست صراعًا بين جارتين واقعتين تحت الاستعمار.  على الناحية الأخرى، لا تتبع الحدود الاستعمارية عادةً الخطوط العرقية، وهذا ساعد في اشتعال الحروب الأهلية العنيفة والدموية بين مختلف المجموعات العرقية في العديد من الدول التي كانت واقعة تحت الاستعمار، وبعد انهيار الشيوعية، ومن أمثلتها السودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأنغولا، ونيجيريا، وأوغندا، وجورجيا، وأذربيجان، و مولدوفا، ويوغوسلافيا السابقة (٨). ولقد تم التأكيد على هذا المبدأ في محكمة العدل الدولية في قضية بوركينا فاسو ومالي عام ١٩٨٦.

١- الارتباط الوثيق بين مبدأ الحدود الموروثة- كمبدأ عام-  والحصول على الاستقلال:

يرتبط مبدأ قدسية الحدود الموروثة، ارتباطًا قانونياً وثيقاً بظاهرة الحصول على الاستقلال حيثما يكون. والغرض الواضح من هذا المبدأ هو الحد من تقويض استقلال واستقرار الدول والحد من مخاطر الصراعات؛ التي تشتعل نتيجة تغيير الحدود. ويشكل مبدأ الحدود الموروثة، أحد أهم المبادئ التي تؤكد مشروعية سيادة الشعب الأحوازي على أرضه، وحقه في الاستقلال من الاحتلال الإيراني، وقد حاولت الدول المسيطرة على الأمم المتحدة، إخفاء هذا المبدأ المتأصل في القانون الدولي، حتى لا ينتشر النزاع على تقسيم الأرض بين القوى العظمى فيما بينها، أو بسبب التخوف من مطالبة السكان الأصليين.

يشير تتبع الأحداث التاريخية لأمارة الأحواز، إنّ الاستعمار البريطاني، و بسبب التجاذبات الدولية، لم يمتثل لمبدأ “الحدود الموروثة”، بالاستناد إلى التخلي عن السيادة الأحوازية لإيران بدلاً من عودتها لسكانها الأصليين، الأمر الذي حرم الأحوازيين من بسط سيادتهم على أرضهم، تماماً كما حصل مع شعوب إفريقيا، بينما استطاع تطبيق هذا المبدأ من إنشاء دول مبنية على قوميات ولغات حقيقية. حيث بنيت أوروبا على قوميات عرقية ولغوية، تماماً كما حصل مع ألمانيا، التي هي مبنية على قومية الألمان فهي قومية عرقية ولغوية. بينما يختلف الحال بالنسبة لدول إفريقيا، إذ مازالت مبنية على حدود موروثة، كانت من قبل مجرد حدود للمستعمرات التي أنشأتها أوروبا بغرض محاولة السيطرة عبر تقسيم المناطق. الأمر الذي أورث حالة من التقسيمات، التي حالت دون النجاح في التوافق بين الشعوب المختلفة، التي وجدت نفسها تحت وطأة الحدود المرسومة، ليس من قبل السكان الأصليين ولكن من وحي الاستعمار. ما أدخلها في أتون حروب أهلية دامية بين القبائل والأعراق المختلفة، راح ضحيتها أكثر من مليوني شخص في النصف الثاني من القرن العشرين. وهو الحال الذي لا ينطبق على الحالة الأحوازية، حيث تتشكل الحدود من حدود تاريخية لم يرسمها الاستعمار البريطاني، كما يشكل الشعب الأحوازي بنية مجتمعية واحدة متماسكة، بتقاليد واحدة ولغة واحدة، وهذا ما يفسر استمرار الثورات الأحوازية والعمل السياسي الذي لم ينقطع، قابله استمراراً لآلة القمع النظام الإيراني للشعب الأحوازي، الذي مازال يعاني من عدم القدرة على الاندماج في محيط فارسي يختلف عن مجتمع الأحوازي.

٢- مبدأ قدسية الحدود الموروثة بين القانون الدولي والمصالح الذاتية للدول:

شكلت إشكالية التلازم القسري بين واقعية العلاقات الدولية ومبادئ وقواعد القانون الدولي، متلازمة سلبية عكست تحقيق المصالح بين الدول. فعلى سبيل المثال، ونتيجة التدافع على إفريقيا في مؤتمر برلين عام ١٨٨٤ الذي قسم المناطق المختلفة بين الدول المستعمرة، غير مبالين بالتوزيع القبلي واللغوي للمناطق المختلفة، قسمت الدول الاستعمارية شعب “الأكان” إلى نصفين، نصف تحت سيادة بريطانيا، والأخر تحت سيادة فرنسا. الأمر الذي نتج عنه تقسيماً أدى إلى قيام دول ليس لسكانها علاقة قوية ببعضهم البعض، فـ”الأكان” الآن مقسمين تحت دولة غانا وساحل العاج، ولا يستطيعون الاتحاد لأسباب عديدة لها صلة بالمصالح بين الحكام او بين الدول المسيطرة على الاقتصاد، وهي الحالة التي تنطبق بشكل أوضح وأكثر تبايناً على الشعب الأحوازي من ناحية ارتباطه التاريخي والجغرافي والثقافي بمحيطه العربي، الذي تم فصله عنه، وعن عاداته وتقاليده، ليلتحق بإيران، في تباين فريد من نوعه في العالم، إذ تؤكد الجغرافيا الامتداد الطبيعي لدولة الأحواز بالجغرافية العربية، كما تؤكدها العادات والتقاليد والتراث، الذي مازال ملتصقاً ومعبراً عن بعده العربي، كما تعبيره عن استقلال الأحواز – من الناحية الفعلية- عن الدولة الإيرانية.

على الصعيد الثقافي، أدى انتهاك  مبدأ الحدود الموروثة من الاستعمار إلى التهميش الثقافي لكثير من الشعوب، و استخدام لغة المستعمر كلغة رسمية للدولة المستعمرة بحدودها الجديدة، تماماً كما حصل في الاحتلال الإيراني للأحواز، الذي نتج عنه حدود إيرانية جديدة موروثة من الاستعمار البريطاني، وبالتالي تهميش الثقافة الموروثة لحساب ثقافة المستعمر، الأمر وضع الأحوازيين أمام أزمات قابلة للانفجار في أية لحظة.

٣- العلاقة بين مبدأ قدسية الحدود الموروثة وحق تقرير المصير:

طالب الكثير من فقهاء القانون الدولي، وضع حق تقرير المصير بالاعتبار عند تعريف مبدأ الحدود الموروثة، فإذا كانت هناك معارضة لهذه العملية فإن العرف السائد في الممارسة الدولية، تؤيد المبدأ الذي ينص على أن إطار الأراضي في مرحلة الانتقال إلى الاستقلال، هو الذي كان للوحدة السابقة في داخل حدود إدارية مقبولة. وقد أكدت المنظمات الدولية مبدأ سلامة وحدة أراضي الدول التي نقلت حدودها الداخلية السابقة إلى حدود دولية إلى قبول مبدأ الحدود الموروثة؛ خاصة وأن مبدأ سلامة وحدة الأراضي يصبح نافذ المفعول بعد الاستقلال. ويؤكد فقه القانون الدولي، أن مبدأي وحدة أراضي الدولة ومبدأ قدسية الأراضي الموروثة، هما مبدأيين مترادفين، خاصة وأن هدفهما الأساسي هو عدم تعريض أراضي الدولة ذات السيادة للتفتيت.

يتسم مبدأ قدسية الحدود الموروثة بالشمول وصلاحية تطبيقه، متى توفر شروطه وظروفه في أي مكان في العالم، فعندما بدأت الأقطار الأفريقية في نيل استقلالها من القوى الاستعمارية الأوروبية ظهرت نزاعات حدودية بين الدول المستقلة، التي انضوت داخلها سيادات دول أخرى، هي بالأساس دول مستقلة. وهي عملية مقصودة من الدول الاستعمارية عند تقسيمها المستعمرات في إفريقيا، وذلك بالعمل على تداخل القبائل الأفريقية بين عدة أقطار، فكل دولة إفريقية، تتكون من مجموعة مستقلة من مجموعات عرقية ثقافية مختلفة، وأمم لها تقاليد تاريخية وثقافية مختلفة وتتحدث لغات متنوع.    ومن أمثلة تداخل القبائل والمجموعات الإثنية بين دول مختلفة انتشار قبيلة ” الماساي” في كينيا وتنزانيا، وقبيلة الأيوي Eweفي توغو وغانا والزغاوة بين تشاد والسودان والصومال.

إن الحق الأحوازي وإذ يتحدد في إطار حق تقرير المصير، إلا أنه يتأكد أكثر كمعيار لحسم النزاع على أساس مبدأ قدسية الحدود الموروثة،  وبالتالي فإن الأخير يؤدي وظيفة ترسيم رقعة الأراضي من أجل إكمال عملية تأسيس الدولة الجديدة، وتقرير استمرار خط الحدود الموجودة من قبل، وبعد تأسيس الدولة الجديدة. وبالتالي فإنّ مبدأ قدسية الحدود الموروثة، يُفسح المجال لمبدأ حق تقرير المصير الذي يحافظ على وحدة الأراضي ويوفر الحماية الدولية للدولة الناشئة الجديدة.

لذلك، وفي إطار القضية الأحوازية، يشكل المبدأين عملية واحدة تسير بالتوازي لإدانة الاحتلال الإيراني، لاسيما في فترة تصفية الاستعمار، فحق تقرير المصير هو حق يعمل في أحد جوانبه في إطار تأكيد الحقوق الفردية والجماعية للمجموعات الأثنية داخل الدولة، وليس له أثر على سيادة ووحدة أراضي الدولة، كما لا يمكن لحق تقرير المصير التأثير في الحدود الدولية، إلا أنه حق لإعادة الحدود الاصلية، بينما يفترض مبدأ قدسية الحدود الموروثة ” أن حدود الدولة الجديدة هي نفس حدود الوحدة الإدارية السابقة قبل الاحتلال”. وبالتالي فإنّ انتهاك مبدأ قدسية الحدود الموروثة وعدم القدرة على تطبيقة، يعطي بشكل أوتوماتيكي الحق الواجب التطبيق لمبدأ حق تقرير المصير، فبالبرغم من أن مسائل حق تقرير المصير وحقوق الإنسان تتعلق بخلق دولة جديدة في القانون الدولي، إلا أنه من الواجب تمييز هذه القضايا عن مسألة إطار الأراضي الإقليمية الخاصة بعملية الانتقال إلى الاستقلال.

لقد ظهرت أهمية مبدأ قدسية الحدود الموروثة كمبدأ في القانون الدولي وأولويته في التطبيق على مبدأ حق تقرير المصير في المسائل التي تتعلق بنزاعات الحدود وصيانة وحدة أراضي الدولة، عندما تفككت جمهورية يوغوسلافيا ونشأت عدة دول مستقلة، بدأت الأزمة السياسية بعد ظهور النزعات الشوفينية للصرب، ومحاولتهم خلق دولة الصرب العظمى وتهميش بقية الأقاليم الأخرى في أواخر ثمانينات القرن الماضي، مما أدى إلى إعلان جمهوريات كرواتيا وسلوفينيا استقلالهم في يونيو ١٩٩١ واعترف الإتحاد الأوروبي بهم كدول مستقلة في يناير١٩٩٢. وأعلنت مقدونيا الاستقلال بعد الاستفتاء الذي عقد في سبتمبر ١٩٩١م وأعلنت الجمهورية، كما صوت سكان البوسنة – الهرسك لصالح الاستقلال بعد الاستفتاء الذي عقد في مارس ١٩٩١ وأعلنت الجمهورية، واعترف بها الاتحاد الأوروبي كأحد الدول الأعضاء في إبريل ١٩٩١، وقرر زعماء إقليمي صربيا والجبل الأسود تأسيس دولة جديدة في إبريل ١٩٩٢ سميت جمهورية يوغوسلافيا الفدرالية، وقرر الاتحاد الأوروبي في أغسطس ١٩٩١ عقد مؤتمر دولي للسلام في يوغوسلافيا وتأسيس لجنة للتحكيم في إطار المؤتمر برئاسة رئيس المحكمة الدستورية الفرنسية بادنترا ، وقد أصدرت اللجنة في الفترة ما بين ديسمبر ١٩٩١ ويوليو ١٩٩٢ عدة آراء وفتاوى قانونية في بعض المسائل الناجمة عن أزمة يوغوسلافيا، مثل الاعتراف بالدول الجديدة ، وتسوية النزاعات الحدودية بينها. وقررت اللجنة في الرأي رقم (١) عدم حدوث انفصال من قبل الجمهوريات الجديدة، لأن جمهورية يوغوسلافيا السابقة قد كانت في طور عملية الانحلال، فلا يوجد تمثيل في أجهزة الحكم الفدرالي للوحدات المكونة ليوغسلافيا، كما أن نتائج الاستفتاء في الجمهوريات المستقلة، تؤكد أن المسار كان نحو الانحلال وأبعد عن الانفصال، كما قررت اللجنة في الرأي رقم (٨) الذي أصدرته اللجنة في يوليو ١٩٩٢ أن عملية الانحلال ” قد اكتملت وأن جمهورية يوغسلافيا الفدرالية الاشتراكية لم تعد موجودة وليس لها أي شخصية قانونية”.

وقد أكدت اللجنة أهمية مبدأ قدسية الحدود الموروثة في مسألة تحول الحدود الإدارية الداخلية في الدولة السابقة إلى حدود دولية، بمجرد استقلال الدولة، وضرورة تبنيه لحل المنازعات الحدودية بين الجمهوريات المستقلة الجديدة حيث ذكرت في الرأي رقم٣  أن ” تصبح الحدود السابقة محمية بواسطة القانون الدولي عدا فيما تم الاتفاق عليه. وتأتي هذه النتيجة من مبدأ احترام الوضع الراهن للأراضي، وخاصة من مبدأ قدسية الحدود الموروثة. وبالرغم من أن هذا المبدأ قد تم تطبيقه من البداية لحسم قضايا تصفية الاستعمار في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، إلا أنه قد تم الاعتراف به في ٢٢ ديسمبر ١٩٨٦ في القضية بين بوركينافاسو ومالي، وقررت لجنة التحكيم على ضوء ذلك، أن الحدود بين كرواتيا وصربيا وبين البوسنة – الهرسك وصربيا ودول مستقلة مجاورة، لا يمكن تغييرها فيما عدا بواسطة اتفاقية يتم الوصول إليها بحرية.

خاتمة

مما تقدم نستنتج: إنّ مبدأ قدسية الحدود الموروثة، يشكل حجة قانونية أخرى للمطالبة بالاستقلال من الاحتلال الإيراني، لاسيما بعد دخوله حيز التنفيذ العملي، بمجرد ممارسة الشعب الأحوازي حقه في تقرير المصير داخل دولة الاحتلال الإيراني، ما يشكل مقدمة قانونية لقرائن مادية تؤكد مبدأ قدسية الحدود الأحوازية، التي تعطيهم الحق بالمطالبة بحق تقرير المصير وتأسيس دولتهم المستقلة ذات السيادة، وبالتالي، تصبح الحدود التي ورثتها إيران عن الاستعمار البريطاني، حق أحوازي غير قابل للانتهاك ولا يمكن المساس به أو وتغييره.

وعلى هذا الأساس، تكون حدود الأحواز التاريخية، هي حدود دولية بنص القانون الدولي، وأن كافة المعاهدات الدولية، التي عقدت بين القوى الدولية المتصارعة، التي أدت إلى ضياع الوطن الأحوازي، هي اتفاقيات باطلة بطلاناً مطلقاً في القانون الدولي العام، أي أنها منعدمة قانوناً، كونها أفعالاً مادية صرفة، وليست تصرفات قانونية، بقدر ما هي أحد مفرزات الصراع بين الأطراف الدولية وفي إطار تجاذباتها السياسية.

وبالتالي، لا يعطي القانون الدولي العام الأفعال المادية التي قامت بها بريطانيا، في معرض التنازل عن الأحواز للاحتلال الإيراني، أية صبغة قانونية أو شرعية، وذلك لبطلان الأساس القانوني والتاريخي والثقافي، الذي قام عليه الاحتلال الإيراني، ما يشكل مخالفة صريحة لقواعد عامة آمرة في القانون الدولي العام، لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، كونها مخالفة صريحة لقدسية الحدود الموروثة، كمبدأ عام ومستقر في القانون الدولي والعلاقات الدولية و القضاء الدولي.

الهوامش :

 

         1) Sebastian Anstis and Mark Zacher (June 2010). “The Normative Bases of the Global Territorial Order.” Diplomacy and Statecraft 21: 306-323.

         2) Columbia/Venzuela Boundery Arbitration (1922) in Hackworth, Digest of International Law (1940) Vol.1, pp. 733-736 .

         3) Helen Ghebrewebet: “Identifying Units of Statehood and Determining International Boundaries: A Revised Look at the Doctrine of Uti Possidetis and the Principle of Self-Determination”, Verlag Peter Lang 2006, ISBN 3-631-55092-8.

         4) M. Shaw “People, Territorialism and Boundaries” 8 European Journal of International Law (1997) P.495

         5) Hensel, Paul R.; Michael E. Allison and Ahmed Khanani (2006). “Territorial Integrity Treaties, Uti Possidetis, and Armed Conflict over Territory.” Presented at the Shambaugh Conference “Building Synergies: Institutions and Cooperation in World Politics,” University of Iowa, 13 October 2006.

         6) Malcolm N. (1997). “Peoples, Territorialism and Boundaries.” European Journal of International Law 8 (3) &- J. Herbst, “The Creation and Maintainance of National Boundaries in Africa” 43 International Orgnization, 4 (1989) P.686.

         7)  M. Shaw, “The principle of uti possidetis,” pp. 93 – 94. and p. 495.and pp:501/507.

         8) P. Radan, The Break up of Yugoslavia and international Law (New York, 2002.

 المصدر : مركز دراسات دور انتاش

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى