لماذا تكرر إيران أخطاء الاتحاد السوفياتي؟
الكثير من القوى عبر التاريخ اختلقت لنفسها أساطير خرافية معينة لتحكم بها شعوبها،
أو لتستخدمها خارج حدودها بهدف التمدد والسيطرة على الآخرين. فمن المعروف مثلاً أن
الاتحاد السوفيتي اختلق لنفسه أسطورة الشيوعية ليحكم بها، ليس فقط السوفيات، بل ليحاول
من خلالها السيطرة على بقية بلدان العالم. وقد شاهدنا على مدى أكثر من سبعين عاماً
كيف عمل السوفيات على تعميم نموذجهم الأسطوري المعروف بالشيوعية الأممية على العالم،
لكن دون جدوى طبعاً.
ولا يقتصر الأمر على الروس في تصنيع الأساطير كأدوات للهيمنة والسيطرة، فحتى
القوى الصغيرة لعبت نفس اللعبة باستخدام الأيديولوجيات الدينية والحزبية لتثبيت دعائم
حكمها في الداخل وتصدير فائض قوتها إلى الخارج. باختصار شديد، فإن كثيرين اصطنعوا الأساطير
السياسية والأيديولوجية والدينية واستخدموها كأساس لمشاريعهم السياسية والتبشيرية والتوسعية
والاستعمارية.
وبينما استخدم السوفيات أسطورة الشيوعية لخلق قوة عالمية، ها هي إيران تستغل
الأيديولوجية الدينية المذهبية للتمدد في أكثر من مكان في هذا العالم، فهي لا تكتفي
بتطبيق نظرية ولاية الفقيه داخل البلاد والحكم بموجبها، بل تحاول تصدير ثورتها التي
لطالما هددت الجيران بها، لكن هذه المرة بطرق جديدة تقوم على دعم المذهب الشيعي هنا
وهناك، وإذا لزم الأمر لا بأس في تشييع الآخرين، تماماً كما كان يفعل السوفيات الذين
جندوا ملايين الأشخاص في العالم تحت راية المطرقة والمنجل.
لو نظرنا إلى الإستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثلاً لوجدناها
تقوم بشكل مفضوح، إما على دعم الشيعة في هذا البلد أو ذاك بهدف إيصالهم إلى سدة الحكم،
حتى لو تطلب ذلك الانقلاب على الأنظمة الحاكمة كما في العراق والبحرين ولبنان، أو العمل
على نشر التشييع حتى لو كان في شمال إفريقيا كالمغرب واليمن ومصر وبلدان أخرى.
لقد شكل العراق على مدى فترة حكم الرئيس الراحل صدام حسين عقبة كأداء في وجه
التمدد الإيراني وتصدير الثورة خارج الحدود، فما كان من الزعيم الإيراني آية الله الخميني
إلا أن فتح جبهة ضد العراق بمجرد وصوله إلى السلطة في إيران بعد سقوط الشاه. وكلنا
يتذكر رسالته الشهيرة التي أرسلها للقيادة العراقية آنذاك وختمها بعبارة تهديد واضحة،
حيث انتهت الرسالة بعبارة “والسلام على من اتبع الهدى”، وكأنه كان يقول للعراقيين
إنكم لا تتبعون الهدى، وبالتالي لا بد من محاربتكم. وفعلاً، فقد نفذ الخميني تهديده
الشهير بمحاربة العراق لمدة ثماني سنوات، لكنه فشل في فتح الطريق أمام الإمبراطورية
الإيرانية التي كان ينوي بناءها، فما كان منه بعد ثماني سنوات من الحرب إلا أن اعترف
بفشله عندما شبّه وقف إطلاق النار بتجرع السم. لكن المؤسسة الحاكمة في طهران لم تيأس
من الاستيلاء على العراق، فقد تحالفت مع الأمريكيين عندما غزوا العراق بشهادة نائب
الرئيس الإيراني علي أبطحي الذي قال حرفياً: “لولا إيران لما استطاعت أمريكا غزو
العراق وأفغانستان”. وبعد خروج الأمريكيين من العراق وقعت بلاد الرافدين كالثمرة
الناضجة في الحضن الإيراني كما كان يطمح ويخطط الإيرانيون منذ عقود. وبذلك أزاحوا كل
ما يمت بصلة للنظام السابق، وعينوا مكانه أزلامهم ممثلين بحزب الدعوة والمالكي تحديداً،
رغم أنه فشل في الانتخابات. وقبل استيلاء الإيرانيين على العراق طبعاً، كانوا قد استولوا
على سوريا من خلال معاهدات إستراتيجية، ناهيك عن أنهم ثبتوا أقدامهم في لبنان منذ السبعينيات.
وقد ظهر نفوذهم في بلاد الأرز بشكل صارخ بعد أن أصبح حزب الله الحاكم الحقيقي للبنان
بقوة السلاح.
وبعد أن استحوذوا على العراق وسوريا ولبنان، راح الإيرانيون يعزفون على الوتر
القديم في البحرين من خلال مظلومية الشيعة وأحقيتهم في حكم البلاد، وذلك من خلال إثارة
القلاقل ودفع أتباعهم للثورة على نظام الحكم. ففي الوقت الذي كانوا يعاونون النظام
السوري لإخماد ثورة شعبية حقيقية، راحوا يساعدون شيعة البحرين للانقلاب على الدولة.
ولولا الجهود الغربية والعربية لتمكن أتباعهم من الوضع في البحرين، كما تمكنوا في العراق
ولبنان.
وكما فعلت في لبنان، ها هي إيران تقتحم اليمن من خلال تشييع مذاهب قريبة من
مذهبها. ويبدو أنها نجحت في الاستحواذ على الحوثيين الذين تحولوا إلى شوكة في خاصرة
الدولة اليمنية وبقية الدول المجاورة. وقد تحدثت الأنباء أخيراً عن مشاركة قوات حوثية
إلى جانب قوات حزب الله والعراق وإيران في سوريا كدليل على تعاضد “الهلال الشيعي”
الذي تحدث عنه العاهل الأردني من قبل.
لا شك أن إيران بشهادة كبار علماء المسلمين تعمل جاهدة في معظم البلاد العربية
على نشر التشيع. وقد وصلت محاولاتها إلى المغرب الذي شعر بالخطر، وقام بطرد السفير
الإيراني من البلاد. وحدث عن التغلغل الإيراني في مصر وغيرها، ناهيك عن التلويح بخطر
المجموعات المذهبية التابعة لإيران في دول الخليج.
لكن رغم تشابه التجربتين السوفيتية والإيرانية في التمدد خارج البلاد عبر الأساطير
الأيديولوجية والروحية، إلا أن التجربة الإيرانية تعتبر أكثر خطورة، فالانتماء العقائدي
السياسي السوفيتي انتهى في كل أنحاء العالم تقريباً بسقوط الاتحاد السوفيتي، بينما
الانتماء المذهبي الذي تعتمد عليه إيران في المنطقة لتوطيد نفوذها سيكون شرارة قد تشعل
حروباً مذهبية لا تبقي ولا تذر. وتتجلى ملامح هذه الحروب في رد الفعل العربي والإسلامي
على التورط الإيراني والعراقي وحزب الله على أساس طائفي الأزمة السورية، حيث بات غالبية
العرب والمسلمين يعتبرون حزب الله مثلاً عدواً مبيناً حسب آخر استطلاع شامل شارك فيه
حوالي سبعمائة ألف شخص من عموم المنطقة.
كتبت قبل سنوات مقالاً بعنوان: “كي لا يخدعوكم بالخطر الشيعي كما خدعوكم
بالشيوعي”. وحذرت وقتها من خلاله من محاولات الغرب ضرب مكونات المنطقة ببعضها
البعض. لكن يبدو الآن أن الغرب لم يعد بحاجة لضرب أحد بأحد بعد أن باتت إيران تلعب
بالنار على المكشوف.
نقلا عن: الشرق القطرية