شعر و أدب

الدمية الجديدة/وسام الصرخي

ألمحُها مُنشغلةً ومُنهمكة بالّلعب مع " صبا "، دُميتها الجديدة التي إشترتها لها أمُّها في عيد ميلادها الخامس منذُ يومين، وقد أطلقت عليها هذا الأسم من وحي خيالها؛ "" تصرَخُ في وجهِ صبا وتطلبُ منها أن تخلُدَ للنوم.. بعد ثوانٍ قليلة تويقضُها ،تُعدُّ لها الفطور وتُجهّز لها حقيبتها المدرسيّة وتُوصيها بأن تهتمّ بنظافة ملابسها جيداً .. فجأة تبدأ بضربها؛ كأنّما الدمية المسكينة قد إقترفت خطأً ما، كلّ ذلك من وحيِّ ذاك الخيال الجارف لكلّ ما هو واقعٌ من حولها.. ترميها بعيداً، وتشردُ في زاويةٍ أخرى من عالمها الصغير الذي يُحيطها و هي غارقةٌ فيه حدَّ النهاية .. تُدقِّقُ بما حولها من دُمىً وأغراض لتُحضّرَ لبداية قصةٍ جديدة وتجسيدَ أدواراً أخرى تبدو من دونِ "صبا " هذه المرّة!!  "" أحْسَستُ بترنّمها لأنشودةٍ كانت قد تعلّمتها للتوّ في الرّوضة حسبما ذكرت لي أمّها قبل أيّامٍ كما وأشارت لي بالمناسبة عن رفضها إلقاءَ كلّما تعلّمته في الروضة أمام الأخرين!! تقرّبتُ منها لكي أسمعُها بشكلٍ أوضح .. شَعرتْ بقدومي المفاجأ نحوها والذي أخرجها ممّا كانت غارقةً فيه .. حاولتْ جاهدةً خداعي حينَ بدتْ وكأنّها مُتعبة لتتفادى طلباتي وتبتعدَ عنّي وعن إلحاحي المعروف بالنسبة لها دائماً لتنفيذِ ما أريد .. لكنّي وكعادتي معها أصرّيتُ على سماعِ ما كانت تقوله قبل قليل .. بعدَ "مفاوضاتٍ طويلة"، وافقتْ أخيراً على العرض .. تُنشدُ مقابل أن أشتري لها "مثلّجات" وأصطحبها لجولةٍ إلى حديقة الألعاب .. بدأت ساعةُ الحسم بالنسية لها ،وضعتْ يديها على عينيها من شدّة الخجل والخوف من أن أسخر منها، وبدأت مهمّتها الشّاقة كما بدا ذلك عليها؛ بدأت تُنشد وهي تعلمُ جيداً أنّها لا تقرأُ الأنشودة كما يجب فتسعى دائماً أن تخفض من صوتها حتّى لا يتسنّى لي فهمَ أي شيء؛ لكنّي عرفتُ سبب كلّ ذلك الرفض والتردد! كانت تعرفُ انّها لا تجيدُ تلك الأنشودة كما هي أو كما يُلقيها الأخرون معها في الروضة، ببساطة شديدة لأنّ لغة الأنشودة غير لغتها الأم ولا تشبهها أصلاً ولم تتعلمّها كما يجب حتّى الأن؛ لهذا إختارت لنفسها الترنُّمَ دائماً لوحدها بدل ذلك الإستحسانَ أو الحلوى التي تُقَدّمُ لباقي الأطفال حينَ يعرضون ويقرأون ما تعلموه في الروضةِ لأبويهم .. كانت طفلةٌ ذكية و مُميّزة ذكرتني ببطلات أفلام الكارتون في التسعينات!!! في تلك اللحظة، تألّمتُ من أجلِها كثيراً ولكثيرٍ من جيلها وربّما أجيالٍ أخرى قادمة .. فقد سمعوا وتكلّموا في البيت بلغتهم الأم والتي تابعوا بها أفلام الكارتون وتفننّوا باللعب بها مع بعضهم في المنزلِ أو الشّارع، ثمّ يُرادُ منهم التحدُث والقرائة والحفظ بلغة أخرى لم يألفوها أصلاً في سنين الطفولة والنشأة .. !!! صرختْ بوجهي بقوةٍ :  ــ "هييييييييييييي" ، "المثلّجات" ؟!! أخرجتني ممّا كُنتُ  مهموماً فيه بشأنها وبشأن مستقبلها، لتُذكّرني بذلك العَرض وفيما لو كُنت قد تجاهلتُ أو تناسيتُ وُعودي لها .. في الطريق إلى حديقةِ الألعاب سألتها ، ــ ماذا تُحبين أن تصبحي عندما تكبُرين؟ فاجئتني بقولها ــ : "بائعة ورد" مثلُ "لميس" .. ! ــ ألا تريدين أن تكوني معلّمة، أو طبيبة، أو …. ؟ ــ لا لا لا .. "بائعة ورد" فقط .. مثل " لميس " ! و …. "حمامة" أيظاً ! مثلُ "يوسف" .. كيفَ أُصبحُ حمامة مثل يوسف؟ ( كان يوسف والذي تفتقدهُ بشدّه يصغرها بقليل وهو إبن جيرانهم، صديقها المفضّل وقد مات قبل بضعة أشهر في حادثٍ مع أخوه، وكانت أمها قد أخبرتها بأنّ يوسف صارَ حمامة وطارَ إلى السماء! ) ــ حسناً …. إممممممم …. ليس كلُّ الناس يقدرون أن يصبحوا حمائم! ــ من إذاً ؟ هل أقدرُ أنا ؟ ــ لا يا حبيبتي .. حسناً إنسي أمرَ الحمامة ،أريدُ أن أقول لكِ شيئاً ، سأشتري لكِ باقة ورود كبيرة وجميلة كتلكَ التي معَ "لميس" ! ــ متى؟ ــ متى شئتِ! لكن بشرط أن تتعلّمي قرائة تلك الأنشودة جيداً في الروضة وتُلقيها أمام "بابا" و "ماما"…! فهم يحبّون كثيراً أن يروك وأنتِ تقرأينَ لهم ما تحفظيه في الرّوضة!! ــ لا أعرف! …. لا أريد! ــ "باقة ورد" ؟ مثل "لميس" ؟ هل أنت متأكدة؟ ــ حسناً .. موافقة .. لا لا .. لا أدري .. إشتري لي المثلجات أولاً ولنذهب للحديقة وبعدها سأقول لك! على بعد أمتار من الدكّان، نزلَ رجُلٌ ضخمٌ من أعلى شاحنته وسَبَقنا إلى الداخل .. كان علينا الإنتظار قليلاً حتى ينتهي الرجل من شراءِ حاجاته .. في الأثناء كانت هي مشغولةُ جداّ بالرجلِ صاحب الشاحنة وكانت تركّزُ على تفاصيل وجهه بإمعان حتّى وصلَ بها سؤالي عن تلك الشُعيرات الصغيرة التي تخرُج من منخاريه .. ناهيك عن أسئلةٍ أخرى مثلَ "لماذا لم يُطفئ سيارته حينَ نزلَ ليشتري؟" .. و "إلى أين هو ذاهبٌ الأن؟"و…. حاولتُ أن أجيبَ على كلّ تلك الأسئلة بمنطقٍ وهدوء حتّى لا تُحمّلني مزيداً من الملاحظات والنقد على أجوبتي! خرجَ الرجلُ من الدكان بعدما بادَلها بنظراتٍ غريبة لم تخلو كثيراً من مشاكسات طفلٍ شقيْ! أخافَها قليلاً لكنّها شعرتْ بالأمان أكثر بعد أن ظلّت تراقبهُ حتّى ركبَ الشاحنة وغادرَ المكان .. إشترينا مثلّجاتنا وكعادتها أصرّت أنْ تأخذَ النّقود منّي لتدفعها هي، كما أصرّت على فتحِ مثلّجاتها بنفسها ورمي الكيس في سطل النفايات كما لو كانت سيدة كبيرة .. خرجنا من هناك وسِرنا نحوَ حديقةِ الألعاب وقد بدأت المثلّجات تذوبُ شيئاً فشيئاً على أصابعها ووجهها .. ــ لقد أصبح عندك شاربٌ أبيضٌ جميل! ــ ههههه …. ــ خُذي هذا المنديل وإمسحي ما صنعته المثلّجات بوجهك !! …. ألا تقولين لي شُكراً ؟ ــ لماذا ؟ ــ للمثلّجات؟ للمنديل؟ لهذه الجولة؟ ــ حسناً .. شكراً ، لكنّي بالمقابل قرأت لك أنشودة ! ــ ههههه ….. نعم صحيح ، لقد تذكّرت …. أتعلمين؟ لقد نسينا شيئاً مهمّاً .. كان يجب أن نشتري واحدة لـ "صبا" ! ــ " صبا " لا تحبُّ المثلّجات! ــ بالعكس .. تُحبها كثيراً .. هي أخبرتني! ــ "صبا" لا تتكلّم .. إنّها دُمية فقط ! ــ إذن من أخبركِ أنّها لا تحب المُثلّجات؟ ــ أنا أعرف .. إنّها دميتي .. ! ــ حسناً، ها قد وصلنا ،إذهبي وإلعبي في تلك الأرجوحة، وأنا سأجلسُ هنا على هذا الكرسي لأاراقبكِ…. هيّا ــ لا ، لا ! تعال معي .. ــ لا تخافي، أنا هنا ،أراقبك ، هيا إنطلقي، هناك أخريات مَن هنّ بعمركِ،إذهبي وإمرحي معهن،هيّا.. ــ لستُ خائفة، لا أحبُ اللعب مع أحد .. ــ لماذا يا عزيزتي، حسناً ،أنا سآخذك إلى هناك، وأطلب منهن أن يسمحنَ لكِ باللعب معهن ، هيا .. ــ لا ، لا ، لا أريدُ هذا ، لنَعد إلى البيت، أريدُ أمي .. ــ حسناً ، كما تشائين… في طريق العودة سألتها عن سبب رفضها اللعب مع البنات في حديقة الألعاب قبل قليل وعن قرارها الأخير بالمناسبة "رفضها الذهاب للرّوضة" …. لكنّها كانت وكأيّ طفلة بالخامسة من عمرها لا تعرفُ ماذا تقول بالضبط أو ربّما لا تعرف كيف تجيبني أو ربّما حتى لا تريدُ البوحَ بأسبابها الخاصّة التي تمنعها .. فقد أصبح لأطفال هذا الزمن أسبابٌ خاصة يحتفظون بها لأنفسهم لم نكن نحنُ نجرؤ على التفكير بها حتّى في سنينَ طفولتنا المسكينة !!! بوصولنا إلى البيت ركضت مسرعةً أمامي ودخلت، أنا وبعدُ أن أنهيت مكالمتي الهاتفية دخلتُ لأجدَ أمها تصرخُ بوجهها وتنادي عليها ولكنّها لا تبالي إطلاقاً :  ــ هيّا تعالي، يكفي "براعم" اليوم، تعالي لكي أحممك، أنا بإنتظارك هيا، أسرعي …. ! ما إن سمعتُ "براعم" حتى إتّضحت لي الأسباب التي كنت أفّكر بها بشأن رفضها الذهاب للروضة واللعبِ مع الأخرين في الخارج، وتيقّنتُ لتوّي أكثر ! جلستُ أشاهدها بإمعان وهي تستمتع بالمشاهدة وتدقّقُ فيما تقولُ الشخصيات الكرتونيه في "براعم" ، ورحتُ أبحثُ عن بدائلَ وحلول يمكن من خلالها سلكُ الطريقينِ معاً بسهولة وحتى لا يتحمّل الأطفال وأبائهم عناءَ التربية والتعليم بالمستقبل، لكنّي أخفقت للوصول لذلك!  فشتّان بينَ الطفلةِ … ودُميتها !!!

وسام الصرخي

المصدر موقع بروال  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى