روحاني والشر المبيت
أيهما أجدر بالتصديق،
قول النظام الإيراني أم فعله؟ سؤال أصبحت الإجابة عليه ضرورة ملحة كي يستطيع المتابع
معرفة الخيط الأبيض من الخيط الأسود. إذ رأينا وبالتزامن مع فترة ترشح الرئيس الإيراني
الحالي موجة من الصخب الإعلامي والتلميع المتعمد وتحسين الصورة والبروباغندا الخادعة.
وبالنتيجة تلهفت لهذا الرجل القلوب الرومانسية الرقيقة باعتباره حمامة سلام، والشخص
الذي سيغير وجه السياسة في منطقة الشرق الأوسط من متوترة ومتشنجة إلى هادئة ومستقرة
ومتسقة. تصوره الكثيرون شخصاً محباً للسلام والاستقرار، وهذا ما أراده الإعلام الإيراني
التابع للنظام أصلاً، حيث لا توجد حرية إعلام في حكومة الملالي الثيوقراطية، ولا معنى
لصحافة مستقلة في ذلك البلد. أكل الجميع الطعم وصدق ما روجته إيران عن رئيسها الجديد،
واجهتها السياسية في الوقت الراهن.
لكن وكما يقولون حبل الكذب
قصير وقصير جداً، خاصة فيما يرتبط بالحالة الإيرانية الراهنة. ففي مقترح موازنة البلاد
لسنة 1393 وهي السنة الإيرانية المقبلة التي أعدت من قبل روحاني ورفاقه، ثبت عكس ما
روج الإعلام لهذا الرئيس الجديد. في المقترح كشف ما حاول النظام الإيراني التستر عليه
وتبين أن هذا الشخص ليس حمامة سلام كما تصور البعض بل أكثر الصقور شراسة وأشدها عزماً
على الفتك وافتراس الغير. ولا وجود في قاموسه السياسي لمفردات مثل الأخوة، التسامح،
حسن الجوار، السلام، نبذ الطائفية، الديمقراطية، حرية التعبير، الخير وغيرها من المفاهيم
التي بنيت وتبنى عليها البلدان الراقية والمتحضرة وتجلب الاستقرار. للمتابعين للحالة
الإيرانية لا يبدو الأمر مفاجئاً، لأن روحاني لا يمكن أن ينتظر منه غير المزيد من التشدد،
فهو رجل ينتسب للمؤسسة الأمنية أكثر مما ينتسب لأي مؤسسة أخرى بسبب فترات اشتغاله الطويلة
في تلك المؤسسة.
في موازنة روحاني زادت
النسبة المئوية المخصصة للقوات المسلحة والشرطة والمخابرات، أي الأجهزة القمعية ما
بين 10% إلى 50%. وهذا دليل قاطع على أن هذه الحكومة مقبلة على المزيد من التشدد داخلياً
وخارجياً. تمت زيادة ميزانية الشرطة 10% وأجهزة المخابرات 30% مما ينذر أن النظام الإيراني
يجهز نفسه للقمع والتشدد والتضييق على المعارضين والمخالفين في الداخل. وتمت زيادة
ميزانية الجيش 50% والحرس الثوري 30% وهذا أيضاً مؤشر واضح على عدم رغبة إيران في بناء
أجواء الاستقرار والاطمئنان في المنطقة، عكس ما روج لروحاني كشخص معتدل سيتمكن خلال
فترة حكمه الكثير ممن تم اقصاؤهم أو زجهم بالسجون والإقامات الجبرية من الحصول على
قدر من الحرية والانفتاح كي يستطيعوا ممارسة حياتهم الطبيعية دون مضايقات، وعلى الصعيد
الخارجي ستعيش الدول المجاورة في سلام وأمان.
ولو كانت إيران تشبه الصين
في وضعها الاقتصادي حيث النمو يفوق الــ 8% سنوياً، أو كانت دولة أوروبية ينعم مواطنوها
بالرفاه والوفرة، لتم تقبل فكرة طرح هذه الميزانية باعتبار أنها حلت مشاكل المواطنين
تماماً وقضت على الفقر وأمنت صحة وسلامة مواطنيها، وهي الآن بصدد بناء قوة لهم تحصنهم
وتحميهم من غدر الأعداء المتربصين بهم! لكن كل هذه الأمور لا وجود لها في إيران. فلا
وجود لنمو اقتصادي يشبه النمو الصيني، ولا رفاه للمواطنين العاديين إلا المتنفذين والحيتان
الكبيرة من التجار.
لكن يبدو أن هذا النظام
لا يعرف كيف يخرج نفسه من المأزق الذي وضع نفسه فيه، مأزق الحصار الخانق. لهذا يعتقد
أنه من خلال قوة القمع والتهديد في الداخل وخلق عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط،
الأمور التي وضع لها ميزانية ضخمة يستطيع فرض نفسه على المجتمع الدولي كي يحصل على
مكافآت.
ورغم هذا يبدو أن الشعب
الإيراني قد تمكن من التأقلم مع أساليب القمع التي تتبعها السلطات هناك، فلا وجود لحالات
رفض جماعية تذكر ولا وجود لمظاهرات ولا وجود لموجات عصيان مدني ولا حتى محاولات نقد
تذكر. وهذه الإعدامات التي تنفذها السلطات الإيرانية واكتسبت شهرة عالمية من ورائها
الأمر الذي جعل منها ثاني أكثر دولة تنفيذاً لأحكام الإعدام بعد الصين، دون احتساب
العدد السكاني الهائل للصين، جلها بحق نشطاء سياسيين عرب وأكراد وبلوش وغيرهم من القوميات
غير الفارسية الأخرى.
لكن
هل تأقلم الشعب العربي والحكومات العربية المجاورة المتضررة دوماً من هذا النظام أيضاً؟
لا أحد يتمنى ذلك على الاطلاق. فإذا كان الإيرانيون قادرين على التأقلم أو مرغمين عليه
أو منسجمين مع نظامهم باعتباره يغذي غريزتهم المحبة للتعالي والتفوق على الآخرين وبأي
شكل من الأشكال، فلا أعتقد أنه من صالح الدول العربية المجاورة وشعوبها أن تتأقلم مع
هذا الصداع المزمن وتتعايش معه. فما حققته وتطمح إلى تحقيقه الدول العربية الخليجية
نتيجة عائدات النفط لا يتناسب مع التوتر والتطرف والأزمات بل هو بأشد الحاجة إلى الاستقرار
والهدوء، ما نلاحظه في الأدبيات السياسية الخليجية.
وما تريده إيران مختلف
تماماً، وهو عبارة عن مكافآت يتصور النظام الإيراني الحالي أنه قد يستطيع الحصول عليها
برغبة من الأسرة الدولية أو رغماً عنها إذا ما استطاع فرض نفسه كمصدر تهديد للاستقرار
العالمي، وهذا نهج ثابت تسير عليه الحكومات الإيرانية المتعاقبة. الإيرانيون واضحون
بذلك وما علينا نحن إلا التخلي عن العاطفة ورقة القلب ولو إلى حين، كي نستطيع تحصين
أنفسنا أكثر اتقاءً لهذا الشر الذي تضررنا منه كثيراً، المنتشي بنجاحاته الطائفية البغيضة
والقادم بقوة لو كتب لمشاريعه النجاح الكامل وحصل على مكافآت من قبل المجتمع الدولي.
ومن خلال مقترح ميزانية روحاني نستطيع أن نتبين أن هذا النظام ليس فقط لا يرغب في تغيير
سياسته في التعاطي مع دول الجوار، سياسته التي أضرت بالمنطقة إلى حد كبير بل هو بصدد
صب المزيد من الزيت على النيران التي أشعلها سابقاً في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
في النهاية الاستقرار
المنشود الذي تطمح إليه المنطقة بأسرها لا يمكن جلبه بتصريحات دبلوماسية من هذا المسؤول
الإيراني أو ذاك، ولا حتى بتوقيع معاهدات واتفاقيات، بل هو بحاجة إلى إيقاف كل هذه
النشاطات العسكرية والأمنية والاكتفاء بما هو موجود. فلا يمكن أن يصدق العالم التصريحات
الإيرانية وادعاءاتها بالعمل على خلق أجواء الاستقرار وبناء جسور المحبة وهي تزيد في
نفس الوقت من قوتها الهجومية سنوياً وتتفاخر بتفوقها العسكري وتمارس الضغط على الدول
العربية المجاورة.
مركز المزماة للدراسات
والبحوث