آراء ومقالات

روحاني وإعادة إنتاج الأكاذيب الثورية


 

 

 

بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين للثورة الإيرانية، قدّم الرئيس
الإيراني حسن روحاني خطابه الشعبوي، كسائر من سبقه من رؤساء لإيران، أعاد فيه
ترويج ذات الأكاذيب الثورية عن قوة إيران في المنطقة، وقدرتها على التصدي لمحيطها،
وتبنيها لقضايا “المستضعفين”، وطموحها السلمي لبناء نظام إقليمي
“خالٍ من الإرهاب”، وعلاقات جوار تخدم المنطقة بأسرها.

 

لكن الملفت في هذا الخطاب، هو تخصيص روحاني لحيز مهم من خطابه،
للحديث عن انتعاش اقتصادي قادم، وتحسن في المستويات الصحية، ومحاربة للفساد،
وارتفاع مستوى الدخل.

 

يعاني روحاني، ومن خلفه المرشد الإيراني وقيادات الحرس الثوري، من
أزمات كبرى استقرت في بنيَة الدولة الإيرانية طيلة عقود ثورتها، حتى بات من الصعب
استدراك تلك الأزمات، والتي باتت إشكاليات متأصلة فيها أكثر منها أزمات، دون
مواجهة داخلية لها، وكشف لكافة الملفات التي تراكمت دون حلول جذرية.

 

لم تكن الثورة في إيران عام 1979، ثورة تيار إسلامي – شيعي منفرد،
أو جهة قومية – فارسية أحادية، بقدر ما كانت ثورة لكل المكونات المجتمعية الخاضعة
للدولة الإيرانية. إذ حملت كافة شرائح المجتمع مظالمها في مواجهة سلطة الشاه
الاستبدادية، متعاونة على الإطاحة به، بغية التحصّل على حقوقها، وترسيخ مبادئ
ديمقراطية تتيح للجميع العمل السياسي، وساندت وصول خميني إلى السلطة، معتقدة
بصدقية طروحاته السياسية، وإمكانية بناء دولة للجميع.

 

إلا أنّ خميني ومن خلفه التيار الفارسي – الشيعي المتعصب، سارع
باختطاف الثورة ونتائجها، وإعادة توجيهها قومياً ودينياً بما يخدم مصالح هذا
التيار بعينه، مستخدماً ذات أساليب الشاه في التصدي للحراك المجتمعي، عبر
الاعتقالات الواسعة، والإعدامات التي تجاوزت المئات في بعض أيام ما بعد الثورة،
والنفي القسري خارج البلاد، وتهجير السكان من مناطقهم.

 

فيما شكلت الحرب العراقية – الإيرانية، مخرجاً لنظام خميني، وصفه
الإيرانيون حينها بأنه (نعمة على إيران)، عملوا من خلاله على تصدير أزمات النظام
الداخلية، وإعادة تعبئة المجتمع في اتجاه الحرب، ومبرراً لحالة القمع السلطوية
تجاه المكونات المجتمعية، وخاصة تجاه الشعوب المنضوية في الدولة الإيرانية، إذ تمّ
تصفية عشرات آلاف العرب في إقليم الأحواز، بحجة مساندتهم لنظام صدام حسين.

 

لم يستهدف الفعل الثوري – المجتمعي في إيران، إعادة إنتاج نظام
تسلطي، يستند إلى قمع ديني وقومي للمكونات المجتمعية، غير أنّ المآلات التي وصلت
إليها الثورة سريعاً، خلقت دولة وسمت عالمياً بدعم الإرهاب، وأنهكت اقتصاد البلاد
في خدمة “مشروع تصدير الثورة”، وشكلت تهديداً إقليمياً لكافة دول
الجوار.

 

وحين ينبري روحاني للحديث عن السلام في منطقة الشرق الأوسط، فهو
يعيد ترويج الأكاذيب التي أُنشِأت عليها السياسة الخارجية الإيرانية، والتي اعتمدت
على اقتباس “منهج التقية” في سلوكها. ففي حين يتحدث ساستها عن علاقات
حسن الجوار؛ فإنّ حرسها الثوري يحتل جزراً إماراتية، ويهيمن على الحكومة العراقية
وسلوكها الإرهابي تجاه المجتمع، ويقود حرباً على الشعب السوري بإسناد نظام الأسد
طيلة الأعوام الماضية، ويفرض أمراً واقعاً عبر ميليشياته في لبنان واليمن، ويدعم
حركات طائفية في أكثر من دولة عربية، ويسعى إلى تأسيس قواعد جديدة له في أخرى، ضمن
ما بات يعرف “بالعالم الشيعي”.

 

حين يتحدث روحاني عن عدم خوض بلاده أية حروب عدوانية، وإنما كان فعلها
العسكري مجرد دفاع عن الذات، وعن ضرورة محاربة الإرهاب في المنطقة؛ فلابد أن
يستذكر محاولات بلاده الإرهابية في كل من الكويت والبحرين والسعودية، وأن يضع نصب
عينيه التفجيرات اليومية في العراق، وما يزيد عن 130 ألف شهيد في سورية على يد
قواته وقوات الأسد والميليشيات التابعة لهما، وعن دعم بلاده المستتر لتنظيم
القاعدة.

 

لربما تكون السياسة الخارجية الإيرانية قد استطاعت الهيمنة على عدة
دول عربية، وتوسيع مجالات نفوذها، إلا أنّ ذلك لا يعني تصديراً كلياً ونهائياً
لأزماتها الداخلية. وإنما تأجيل وتعزيز لتلك الأزمات، إلى حين تفجرها جميعاً.
وأولاها تلك المتمثلة بحقوق الشعوب المنضوية تحت السلطة الإيرانية، سواء أكانت
حقوقاً ثقافية ودينية، أم حقوق تقرير مصير، أو حتى حقوقاً إنسانية، والتي انتهكتها
ثورة 1979.

 

فيما لم تجلب العمليات العسكرية الإيرانية خارج حدودها، سوى مزيد من
الأزمات الاقتصادية على المجتمع الإيراني، أدت إلى انهيارات مالية كبرى، وتفشٍ
للفساد في كافة مفاصل الدولة (كما أقر روحاني)، وانحدار مستويات التعليم والصحة
إلى أدنى مستوياتها، وارتفاع في مستويات الجريمة وتعاطي المخدرات، وبلوغ الفقر
حداً غير مسبوق في المجتمع الإيراني، وانهيار البنى الاستثمارية بعيدة المدى،
والتي تحتاج إلى عقود طويلة لإعادة تأهيلها.

 

يتحدث روحاني، وهو يدرك أنّ ثورة بلاده باتت أمام منعطف حاسم،
دفعها للتخلي عن برنامجها النووي العسكري مقابل الغذاء والدواء، وأنّ مشروعها
السياسي بات مهدداً في حال إسقاط الحليف الأسدي. كما ويدرك أنّ أيّ انفتاح
اقتصادي-سياسي مع القوى الغربية، سيشكل بدروه تحديات جمة، من أبرزها مراجعة الخطاب
الثوري “المقاوم”، ومنه مراجعة إيديولوجيا بناء الدولة، وإقرار بتقاسم
المصالح في المنطقة، عدا عن أبعاده الداخلية؛ فأيّة عملية انفتاح داخلي، سيرافقها
انفتاح فكري واقتصادي، قد يطيح بالنظريات الخمينية في إدارة الدولة.

 

ما أنجزته الثورة الإيرانية على الصعيد الخارجي في العقود
المنصرمة، لا يتعدى تحويلها إلى دولة منبوذة في المحيط الإقليمي والدولي، وعدواً
لدول جوارها، ومصدراً للإرهاب والدمار في محيطها العربي.

 

أما داخلياً، فقد عمقت هذه الثورة خطوط الفصل القومي والديني بين
مكونات المجتمع، وانتهكت كافة الحقوق الإنسانية لصالح تعزيز الحالة السلطوية
الفارسية – الشيعية، وجَيّرت الاقتصاد لخدمة برنامج تسليحي أنهك البلاد على غرار
النمط السوفييتي، مع تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا البرنامج، وحقيقته، وحجمه الفعلي،
الذي قد لا يتجاوز مرحلة إنتاج أسلحة تجارب محدودة، مع تحويل إيران لأكبر مستودع
خردة سلاح في العالم.

 

ما أنجزته الثورة الإيرانية، هو اغتصاب حقوق الشعوب التي هيمنت
عليها، وسرقة مواردها النفطية والمائية والمعدنية، وتهجير قسري لأبنائها، وترسيخ
حالة التنافر الداخلي.

 

ليس هناك ما هو مطلوب من إيران، في ظل مثل هذه القيادات العدوانية،
إنما المطلوب، يقع بالأساس على كاهل الدول العربية، عبر استدراك سياسات أمنية
استراتيجية كليّة، وبناء حالة ردع تتصدى لحالة التغلغل الإيراني في مجتمعاتنا
العربية، وتوسيع مفهوم الأمن القومي العربي، والعمل على تحقيق ذلك من خارج الأرض
العربية، أي دفع المواجهة السياسية مع إيران إلى داخل حدودها، بدلاً عن اعتماد
المواجهة معها على الأرض العربية. فكثير من شعوب إيران تتطلع إلى مساندة قضاياها
في مناهضة سلطة طهران، عدا عن ضرورة استدراك البعد الأمني للامتداد العربي في
إقليم الأحواز.

 

مركز المزماة للدراسات والبحوث


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى