شعوب ولغات متعددة في إيران لا تريد السلطات الاعتراف بها
في اليوم العالمي للغة الأم، تعمل الكثير من المنظمات والمؤسسات العالمية، ومعها الكثير من الدول على تدعيم اللغة الأم ومساندتها، خاصة تلك التي تواجه الانقراض بسبب قلة الناطقين بها. وتأسست منظمة اليونيسكو للحفاظ على ثقافات الشعوب والأمم، كي يبقى العالم يتمتع بتنوعه الثقافي الحالي. لكن وعلى عكس هذا المسعى هناك دول تسعى إلى تدمير ثقافات ولغات الآخرين، من خلال حظرها لتلك اللغات، ومعاقبة الناطقين بها بطرق مختلفة. من بين تلك الدول إيران التي يعتقد البعض أنها واحدة موحدة في كل شيء بثقافتها وبلغتها الفارسيتين، بينما توجد فيها مجموعة شعوب تختلف بلغاتها وثقافاتها، لكنها تعرضت للحظر ومن ثم النسيان بفعل السلطات هناك.
إذ عمل الفرس ومنذ عام 1936 بالقوة العسكرية والقمع على صهر عدة شعوب كان ولا يزال البعض منها يفوق الفرس عدداً، لكي يخلقوا منهم شعباً واحداً بلغة وثقافة واحدة وهي الفارسية. لهذا عمموا اللغة الفارسية على كافة الشعوب التي استطاعوا احتلال أراضيها في الربع الأول من القرن العشرين، بحجة أن الدولة الحديثة التي أسسوها بحاجة إلى لغة واحدة وثقافة مشتركة. لهذا منعت السلطات لغات الشعوب الأخرى وحاولت طمس هوياتها، ومارست التمييز العنصري لصالح الشعب الفارسي وضد الشعوب الأخرى. واعطت الامتيازات للفرس وللقادرين على التحدث باللغة الفارسية من الدارسين بها، وأصبح التطور والنهوض على المستويين الشخصي والاجتماعي في إيران وبفعل السلطة يعتمد بشكل أساسي على اللغة الفارسية، وساهم في تكريس هذا الواقع خضوع نخب تلك الشعوب الاجتماعية والثقافية لتلك الممارسات المجحفة التي عملت عليها السلطات الفارسية، تلك النخب هي أول من لبس اللباس الفارسي الذي تم تعميمه، وهي أول من انصاع لتجربة التفريس عبر انسياقها بمرونة ودون مقاومة تذكر وراء مغريات ذلك المشروع طمعاً بالوظائف والامتيازات التي كانت تمنحها سلطات الاحتلال لكل من يخضع لمشروعها، لكن ظلت فئات واسعة غير متقبلة لهذا المشروع إدراكاً لخطورته أو تمسكاً بأصالتها وطبيعتها التي تختلف تماماً عن طبيعة الفرس.
روج البعض لهذا المشروع الظالم والخطير الذي يستهدف مجموعة شعوب مثل الآذريين والعرب والأكراد والبلوش والتركمان بطرق مختلفة، فمنهم من ادعى أن الفرس تنازلوا عن اسم دولتهم التي كانت آنذاك تسمى فارس وأسموها إيران لتتماشى مع وضعها المتوسع الجديد الذي يضم عدة شعوب غير فارسية، لهذا يجب على الآخرين أن يتنازلوا هم بدورهم، رغم أن الفرس أنفسهم يقولون إن تغيير الاسم جاء من أجل ترسيخ فكرة أن هذه البلد ينتمي إلى العرق الآري، بمعنى أن من يسكن هذا البلد هو فارسي نقي ذو دم أزرق!
ومنهم من قال: تحقيقاً للقوة المطلوبة لردع الأخطار والاعتداءات يجب أن يتحدث الجميع بلغة واحدة. ومنهم من كان يرى أن اللغة الفارسية هي الأكثر عراقة وقوة وثراء، وهي لغة التدوين والتاريخ، لهذا يجب أن تكون هي اللغة الرسمية للبلد ويجب تعميمها على الجميع وإن تطلب الأمر استعمال القوة والقمع.
واستمر الوضع مع وجود عدم الرضا لذلك المشروع إلى أن انتصرت الثورة في إيران عام 1979. الثورة التي تأملت منها الشعوب استرجاع ما فقدته خلال الحكم الاستبدادي السابق، أولها الدراسة في اللغات المحلية لتلك الشعوب غير الفارسية، وهذا ما تجلى واضحاً عبر مطالبات الوفود التي أرسلتها تلك الشعوب لمقابلة خميني آنذاك للتعبير عن مطالبها، ومن بين تلك الشعوب، الشعب العربي الأحوازي الذي كان يضع اللغة العربية والدراسة بها من بين أولوياته الأساسية إدراكاً لأهميتها في المحافظة على بنية الشعب وثقافته.
رفضت كافة مطالب تلك الوفود بحجة أنها ستساهم في تجزئة إيران وتقسيمها، وكذر الرماد في العيون وضعت بعض المواد القانونية في الدستور الإيراني التي ظلت غير مفعلة إلى يومنا هذا، توحي بأنها جاءت تلبية لمطالب تلك الشعوب، لكن في الحقيقة تشمل في طياتها خدعة وتضليلاً لتلك الشعوب. إذ ذكر في المادة الخامسة عشرة وجوب تدريس اللغة الفارسية وجواز تدريس اللغات الأخرى إلى جانبها وشتان ما بين الوجوب والجواز. كما أن خدعة كبيرة أخرى أيضاً انطلت على الكثير من المهتمين حينها بهذا الموضوع وإلى يومنا هذا. فقد نصت المادة المذكورة من الدستور على جواز تدريس آداب اللغات غير الفارسية، وهذا لا يعني الدراسة بها. فالطالب مثلاً لا يحق له دراسة جميع العلوم في لغته الأساسية. بل يستطيع دراسة لغته باعتبارها لغة أجنبية كاللغة الإنجليزية بل أقل أهمية منها.
كل تلك الممارسات غير العادلة التي مارستها ولا تزال السلطات الإيرانية تجاه مجموعة شعوب تفوق في عددها الشعب الفارسي، يبررها الإيرانيون بحجة الحفاظ على السيادة ووحدة الأراضي الإيرانية من التجزئة والتقسيم. ويعارضون الدراسة باللغات الأخرى خوفاً على ضياع اللغة الفارسية حسب زعمهم، لكن لا أحد منهم يسأل نفسه، لماذا يجب أن تتم التضحية بمقدرات مجموعة شعوب ولغاتها وثقافاتها من أجل الحفاظ على لغة واحدة وثقافة واحدة لا تمتلك مميزات خاصة أكثر من غيرها؟
الساسة الإيرانيون يعرفون تماماً أن طريقة رضا بهلوي ملك إيران الأسبق المتمثلة في صناعة شعب بلغة وثقافة مشتركة بقوة السلاح والقمع لم ولن تكلل بالنجاح، وهي في منتهى الهشاشة وستزول بمجرد أن تتاح الفرصة لتلك الشعوب، وكل ما هو موجود الآن أمر مؤقت سيزول عاجلاً أو آجلاً. لكنهم لا يريدون التخلي عن المكتسبات التي حصلوا عليها بقوة القمع والسلاح، والغريب الذي يصعب فهمه، هو كيف ستتعرض اللغة الفارسية التي تغنى بها ومجدها الفرس للخطر، إذا ما درست الشعوب غير الفارسية بلغاتها الخاصة!
ما يحدث في إيران اليوم هو نتيجة تعالي وعدم اعتراف فئة خاصة امتلكت أدوات السلطة والقمع نتيجة تحالفها مع الاستعمار آنذاك، وحققت ما تريد وأكثر، وهي اليوم غير قادرة على تقبل فكرة أن ما حصلت عليه هو ليس بالضرورة حقها. وهي غير قادرة على تقبل فكرة أن الانسان العربي والآذري والكردي والبلوشي والتركماني أيضاً من حقهم أن يدرسوا بلغاتهم، ويحافظوا على ثقافاتهم، كما أنها غير قادرة على تقبل فكرة أن كل ما عملت عليه السلطات المتعاقبة من أجل طمس هويات ولغات الشعوب الأخرى فشل ولم يحقق من أهدافه إلا القليل. واليوم الأجدر بالقائمين على منظمة اليونيسكو أن يقوموا بطرد إيران من عضوية تلك المؤسسة أو من المشاركة في نشاطاتها، لأن إيران تحاول قتل وتدمير عدة لغات وليس لغة واحدة، وتعاقب كل من أصر على التعلم بها، وهذا يتناقض تماماً مع ما تعمل عليه اليونيسكو ويقع ضمن نشاطاتها الرئيسية.
مركز المزماة للدراسات والبحوث