للمتغنين بالفحولة الإيرانية
هناك
من لا يرى سوى ما يروج له الإعلام الإيراني بشقيه المحلي والإقليمي، لهذا لا يرى
إيران سوى الدولة العظمى والقاهرة (للاستكبار العالمي) والمتطورة صناعيا وعلميا،
ويراها نموذجاً وقدوة يجب على الجميع الاقتداء بها. أغلب هؤلاء لم يسافروا إلى
إيران ولا مرة واحدة في حياتهم، أو القليل منهم من سنحت لهم فرصة السفر، سافروا
إلى قم وطهران فقط وليس لإيران فلم يتسن لهم معرفة الحقيقة الغائبة.
في ظاهر الأمر
إيران دولة قوية جداً وتقارع إسرائيل والغرب وأرسلت مركبة للفضاء وتصنع صواريخ
بعيدة المدى وطيارات بدون طيار وأنواع أخرى من الأسلحة. لكن هذه الأمور كلها ليست
من مقاييس التطور وإلا لاعتبرت اليابان وألمانيا من أكثر الدول تأخراً وانحطاطاً.
قبل
خروجه من الواجهة السياسية كان يتفاخر أحمدي نجاد وعبر التلفزيون الرسمي أن إيران
الدولة الوحيدة على الكرة الأرضية التي لا يوجد فيها عائلة واحدة فقيرة وجائعة.
وعندما سئل وزير العمل في فترته عن خط الفقر في إيران قال إنه لا يعرف وهو يقصد أن
إيران لا يوجد فيها فقر حتى يستطيع الوزير معرفة حدود خط الفقر المزعوم! الآن وبعد
استلام روحاني منصب رئاسة الجمهورية في إيران ونتيجة للوعود الكثيرة التي رتبها
على نفسه في حملته الانتخابية، تعالت هذه الأيام أصوات كثيرة تطالبه في الكشف عن
حدود خط الفقر ونسب البطالة ونسب الأمراض الاجتماعية الأخرى وتطالبه بعدم
الاستمرار على النهج التقليدي الذي عادة ما يتستر على مثل تلك الأرقام كي لا تظهر
مساوئ النظام الإسلامي! وتطالبه بالكشف عن الحقائق، الأمر الذي من شأنها المساهمة
في استئصال تلك الأمراض.
ولكن
سواء كشف روحاني أو لم يكشف فهناك حقائق دامغة يعرفها الإيرانيون جميعا لا يريد
فهمها المتغنون بالفحولة الإيرانية فقط. إذ قبل أكثر من سنة فقط كانت وزارة الصحة
قد نشرت تقريرا يفيد أن واحدا من كل ثلاثة أطفال في إيران يعاني من سوء التغذية أي
33% من الأطفال. كما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن اثني عشر مليون إيراني يعانون
من سوء التغذية ولا يستطيعون تأمين احتياجاتهم الغذائية وهذا ما أكده رئيس مركز
الإحصاء في إيران حيث قال إن أكثر من عشرة ملايين يعانون من الفقر المدقع وثلاثين
مليون يعيشون تحت خط الفقر النسبي. أي أقل بقليل من نصف التعداد السكاني الإيراني
يعيش تحت خط الفقر.
وهناك
ظواهر اجتماعية أخرى سببها الفقر باتت منتشرة في إيران ويذكرها الإعلام المحلي
بخجل بين الحين والآخر لكن المواطن الإيراني يراها ويلامسها يومياً، مثل بيع
الأعضاء البشرية والنوم في قارعة الطريق والعشوائيات في المدن الكبرى وعصابات
الدعارة ونسبة الإدمان وأهمها النسب المرتفعة جدا من الإيرانيين الذين يهربون
للخارج طلبا للعيش هناك.
ولو
كان الأمر يتعلق بدولة مثل بعض الدول الإفريقية التي تعاني من قلة الموارد
الاقتصادية ومن القحط والجفاف والحروب الأهلية والنزاعات القبلية وعدم الاستقرار
السياسي، لكان الأمر أكثر قبولا، لكن الحديث هنا عن دولة مثل إيران التي تستحوذ
حاليا على كميات هائلة من النفط والغاز وغيرها الكثير من الموارد الطبيعية، دولة
تجري شهريا أكثر من مناورة عسكرية وتستهلك من خلالها ملايين الدولارات، دولة تصنع
الصواريخ بعيدة المدى بكميات هائلة ودولة تصر على صناعة القنبلة النووية، ودولة
تصرف المليارات من أجل دعم خلاياها وعملائها وحلفائها في الخارج الذي ينفذون
أجندتها المعروفة العابثة في المنطقة.
ورغم
محاولة البعض إرجاع الأمر إلى الحصار المطبق على إيران من قبل المجتمع الدولي دون
ذكر أسباب هذا الحصار، لكن الحقيقة تقول إن محاولات إيران الحثيثة في عسكرة منطقة
الشرق الأوسط بأسرها ومحاولاتها أيضا في إرهاب جيرانها والتدخل في شؤونهم عبر
زيادة قدرتها العسكرية الهجومية وليس الدفاعية وإهدارها الكثير من الأموال على هذه
المشاريع التي ثبت عدم جدواها هي السبب الرئيس فيما هي عليه إيران.
كما
حاول البعض إرجاع هذا التدهور إلى سوء إدارة البلد لأشخاص بعينهم لتبرئة النظام
وتوجهاته لكن الحقيقة ليست كذلك إطلاقا. لهذا لم تتغير الحالة الإيرانية مع تعدد
الرؤساء الذين حكموا في إيران وهم ستة رؤساء منذ انتصار الثورة في إيران إلى يومنا
هذا.
الحقيقة
أن إيران ضحت وتضحي بكل شيء من أجل جعل نفسها قوة إقليمية كبرى في المنطقة، وما
تقوم به إيران لا يخرج عن حالتين؛ الحالة الأولى تحقيق حلمها الاستراتيجي في
السيطرة على المنطقة وتحقيق رغبة كانت ولاتزال موجودة في نفوس أغلب الإيرانيين
مسؤولين ومواطنين. إذ إنّ امبراطورية الفرس رغم اختلاف البعض حول حقيقتها وهل كانت
فارس بالفعل حضارة حقيقية أم وهمية ومصطنعة كما يذكر الكثير من الباحثين، فهي
موجودة بالفعل في عقل كل إيراني. وهي أساس هذا الخراب المنتشر في المنطقة وهي أساس
إهدار كل هذه الموارد.
الحالة
الثانية هي الغيرة والحقد على نجاحات الدول المجاورة مثل المملكة العربية السعودية
والإمارات العربية المتحدة والآخرين من تطور على كافة المستويات إلا العسكرية التي
يحبذها الإيرانيون كثيرا. في الشرق الأوسط هناك دول قد لا تبدو مواردها الاقتصادية
أكثر من إيران لكنها تعيش طفرة حقيقية على مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي
والصحي والخدمات منذ عقود، مما جعلها محط أنظار العالم أجمع، وهذا ما لا تتقبله
العقلية الإيرانية فكيف للعربي الذي بالأمس كان يرعى الإبل أصبح اليوم قدوة للعالم
في الرفاهية والاستقرار والخدمات والتمتع بالتقدم ومنتجاته.
في
النهاية الأيديولوجية التي تتبناها النخبة الحاكمة في طهران تجعلها تسير على نهج
رسمته منذ أكثر من ثلاثة عقود، ورغم الشكوك التي تحوم حول نجاعته لكن لا توجد
مؤشرات حتى هذه اللحظة تفيد أن إيران ترغب في العودة عن هذا النهج المكلف لها
وللمنطقة. ورغم إن بإمكان إيران اللحاق بركب الدول المتحضرة في المنطقة وربما
التفوق عليها عبر الكف عن فكرة تحقيق الحلم البغيض، والانكفاء على تلبية حاجات
مواطنيها. وعبر الكف عن صناعة الصواريخ من أجل تخويف دول الجوار وتحويل ميزانيتها
لتحسين الوضع المعيشي لمواطنيها، لكن الساسة الإيرانيين لازالوا يصرّون على السير
في هذا الطريق الخاطئ تنفيذا لمآربهم التي باتت مكشوفة للجميع، والمفارقة أنّ
الجميع في إيران يعرف أنّ الدولة أهملت أوضاع مواطنيها وتسببت في خلق الكثير من
الأمراض الاجتماعية للإيرانيين لكن هنالك من لايزال يتغنى بإنجازات إيران وتفوقها!
مركز
المزماة للدراسات والبحوث