آراء ومقالات

القوة الناعمة الإيرانية ودورها في استهداف الهوية الأحوازية


 

كثيرا ما يتم التداول
في المجالس والاجتماعات عن الغزو الثقافي الفارسي للثقافة العربية في الأحواز
واستهدافها بغية مسخ الهوية الأحوازية وطمسها إلى غير رجعة. وبالرغم من كثرة هذه
الأحاديث، لكنها بقيت حبيسة في البديهيات والمسلمات، واكتفت فقط بـمقولة يجب
مقاطعة الفرس ولم يتم تفكيك هذا الغزو الثقافي إلى عناصره الجوهرية بطريقة واعية
والخوض في تفاصيله ومعالجته ولم يتم تشخيص العناصر التي يجب مقاطعتها ولم يتم
تناول طرق المقاطعة
.


تعتمد الدولة الفارسية في
سياساتها بموازاة القوة الصلبة التي توظفها لقمع الشعب العربي الأحوازي واضطهاده،
تعتمد على القوة الناعمة التي تجعل المواطن الأحوازي يُعجب بالدولة الفارسية
وبثقافتها وقيمها، ويميل إليها طواعية وينخرط في صفوفها ثم ينصهر ويندمج في مجتمعها.
وأهم عناصر القوة الناعمة التي تستخدمها الدولة الفارسية في غزوها الثقافي للمجتمع الأحوازي،
اللغة الفارسية والعادات والتقاليد والرموز الفارسية، والمعتقدات الطائفية التي
تتستر بلباس مذهبي وديني، وبعض القيم السياسية مثل حقوق المرأة والمشاركة في
الانتخابات
.


مبدئيا لا أحد يخالف
انتشار قيم سياسية مثل حقوق المرأة والمشاركة في الانتخابات، ولا أحد يبغض الشعب
الفارسي ويكره لغته أو عاداته وتقاليده. لكن التسليم بهذا المبدأ له ظروفه الخاصة
أي في حال كانت الأحواز تتمتع بسيادتها الوطنية وتعيش حالة طبيعية مثلها مثل سائر
دول المنطقة والعالم. أمّا في الحالة التي يعيشها الشعب العربي الأحوازي فالوضع
يختلف تماما ويجب التعامل مع هذه العناصر بالمنطق الصحيح وبدقة وحذر. عندما يتم
الترويج في الأحواز لحقوق المرأة فهذا الترويج ليس اهتماما بالمرأة الأحوازية أو
اعتناء بالقيم الإنسانية، وإنما يُروج لها بغية غزو نصف المجتمع الأحوازي واعطاءه
مظهرا ومضمونا فارسيا – من خلال الملابس وطريقة التفكير والسلوكيات واللغة -التي
لا تمت للواقع الأحوازي والعربي بصلة. فتصبح المرأة الأحوازية نسخة طبق الأصل
للمرأة الفارسية. أمّا المشاركة في الانتخابات والحياة السياسية التي يروج لها
الاحتلال الفارسي بين أوساط الشعب الأحوازي فهذا الترويج لا يتكئ على مبدأ الايمان
باللعبة الديموقراطية وفتح المجال لكل مكونات الدولة للمشاركة في انتخاب من يمثلها
ومن يتخذ قرارات نيابة عنها. وإنما يُروج لهذه القيمة السياسية من أجل تلميع صورة
الدولة الفارسية خارجيا واعطاءها المظهر الديمقراطي وتقوية موقفها في سياستها الخارجية، وللتمويه
والتغطية على الجرائم والمشاريع التدميرية الكبرى التي تحدث في الأحواز وأهمها
تغيير الديموغرافية الأحوازية واعطاءها طابعا فارسيا، وبناء المستوطنات وتوطين
غير العرب في الأحواز، وتهجير العرب خارج بلدهم، وسلب الأراضي من العرب ومنحها
للفرس شعبا ومؤسسات.


قد تعتبر من
الضروريات والحاجات الملحة تعلم المواطن الأحوازي لغات إلى جانب اللغة العربية،
فهذه اللغات تسهّل عليه الارتباط والتواصل مع الأخر وتيسر عليه نقل المعلومة أو تلقيها
بأسرع وقت ممكن وبدون أي تغيير في مضمونها. بيد أن ما يحدث في الأحواز يخرج عن هذا
الإطار المتعارف عليه والمألوف. وما هذا الترويج للغة الفارسية وبكثافة وحماسة
مفرطة بين الشعب الأحوازي إلا من أجل استهداف اللغة العربية وتهميشها ونشر اللغة
الفارسية بديلة عنها وبالتالي يعني طمس الهوية الأحوازية والقضاء عليها. فهذا
الاهتمام المتزايد في تعليم اللغة الفارسية ونشرها لم يأت حبا بالشعب الأحوازي حتى
يتعلم لغات عديدة مثل الدول الأخرى في العالم التي تُعلم شعوبها لغات عديدة، وإنما
يأتي هذا الاهتمام المتزايد باللغة الفارسية والسعي الحثيث لنشرها من أجل العناية
بالثقافة واللغة الفارسيتين ومن أجل القضاء على عروبة الأحواز وطمس هويتها. ومن
يظن غير ذلك ويعتقد بوجوب تعلم باللغة الفارسية باعتبارها اللغة الرسمية والمشتركة
عليه أن يسأل نفسه لماذا وكيف أصبحت هذه اللغة رسمية ومشتركة دون غيرها من اللغات
في الكيان الفارسي رغم تلك اللغات التي تتفوق عليها في ثراءها وجماليتها. فهذه
اللغة فُرضت بقوة العنف والاكراه على الشعوب ولم تأت بقوة غناها وسعتها، ولا يمكن
أن تستمر وتحافظ على وجودها وتطورها إلا من خلال تهميش لغات المكونات الأخرى في جغرافية ايران السياسية ومنع أبناءها من التعلم بلغاتهم.

 

من حق الشعب الفارسي كالشعوب الأخرى أن تكون له
عاداته وتقاليده يعتز بها وتميزه عن الشعوب الأخرى، ولكن ليس من حق الشعب الفارسي
أن يروج لعاداته وتقاليده في المجتمع الأحوازي ويفرضها على الشعب الأحوازي مستغلا أدوات
القوة الناعمة، ومنتهزا للظروف المأساوية التي يمر بها الشعب الأحوازي. يستغل
الشعب الفارسي أدوات القوة الناعمة التي تملكها الدولة وينشر ثقافته وقيمه بين
الشعب الأحوازي وهذه الأدوات يمكن تحديدها بوسائل الاعلام (المطبوعة والمرئية
والمسموعة)، والمدارس والجامعات، والحوزات والمراكز الدينية والمستوطنين والقوة
الاقتصادية. كل هذه الأدوات مجتمعة تؤدي الدور الوظيفي لنشر عناصر القوة الناعمة
داخل المجتمع الأحوازي وتكريسها على حساب ثقافة الشعب العربي وتهميشها. من خلال
نظرة شاملة وفاحصة للمجتمع الأحوازي يمكن مشاهدة حجم الدمار والتشويه الذي لحق
بالشعب الأحوازي وثقافته في الفترات التي تلت الاحتلال وبالأخص العقود الأخيرة
منه. بعيدا عن الشمولية ولغة التعميم، أصبحت اللغة الفارسية تستخدم على نطاق واسع
في المدن الأحوازية بين أبناء الشعب العربي الأحوازي وليس فقط بينهم وبين الفرس، واللغة العربية باتت هجينة تجمع بين المفردات الفارسية والعربية وتصنع منها
جمل لا يفهما إلا الشعب الأحوازي في بعض الأحيان. أمّا مظهر المواطن الأحوازي في
المدينة لا يختلف كثيرا عن مظهر المواطن الفارسي. إذ استعاضت الكثير من الشابات
الأحوازيات، عن الملابس العربية بالملابس الفارسية وبتن يتشبهن بالفتيات الفارسيات أكثر من تمسكهن بمظهرهن وإصالتهن العربية، وبتن يفضلن في كثير من
الأحيان اللغة الفارسية على العربية. وحال الشاب الأحوازي في المدينة لم يكن أفضل
منهن. إلى جانب هذا التغيير، الكثير من المضايف والمجالس العربية تبدلت إلى
حسينيات أو تم هجرها، والقبيلة فقدت أدوارها الاقتصادية والأمنية والثقافية التي
كانت تلعبها في المجتمع الأحوازي وأخذت الدولة الفارسية مكانها في تأدية هذه
الأدوار. أمّا المناسبات والأعياد، العربية منها والإسلامية هُمشت ومُنعت لصالح الأعياد
والمناسبات الفارسية مثل عيد النيروز الذي تُعطل به مؤسسات الدولة ويتم الاحتفاء
به أكثر من خمسة عشر يوما، وعيد الفطر وعيد الأضحى لا تتجاوز عطلتهما ثلاثة أيام!


هذه مجرد سطور من
مأساة حقيقية يعيشها يوميا الشعب الأحوازي قد تصل به إلى طمس الهوية والاندثار إن
لم يتم التنبه لها ومواجهتها بقوة عربية ناعمة تصد القوة الفارسية الناعمة وتحافظ
على الثقافة والهوية العربية في الأحواز. قد يكون من الصعب وبعيدا عن الواقع الأحوازي
الحديث عن المقاطعة في جميع المجالات، ولكن من الضروري التنبه إلى عناصر القوة
الناعمة وأدواتها وتجنبها قدر المستطاع ومقاطعتها، والتعامل معها بحذر شديد
واحتراس في أوقات الضرورة. وفي نفس الوقت من المفترض تنمية عناصر الثقافة العربية
في الأحواز وتطويرها
لتواكب
التطور والتقدم في العالم والمنطقة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى