آراء ومقالات

مقاربة إقليمية جديدة للتعامل مع إيران

تفيد مجمل التطورات الأخيرة في منطقة المشرق العربي مع تطور عملية التفاوض بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، بأن هناك انسحاب أمريكي من أهم الملفات إلتهاباً في المنطقة وعلى رأسها الملف السوري والملف العراقي الذين كسبتهما إيران كما يبدو حتى الآن من التطورات التي وصلت إليها الأمور في كلا البلدين، هذا فضلاً عن عدم الانتباه لهواجس الحلفاء العرب في منطقة الخليج من كل هذا الأداء المتذبذب من قبل أمريكا فضلاً عن الأداء في مصر وعدم وضوح التوجهات الأمريكية في قضايا أخرى مثل القضية الفلسطينية.

ولعل المفاوضات الأمريكية مع إيران بشأن ملفها النووي وما توصل إليه الطرفان في مؤتمر جنيف قد فاقم الارتباك في المشهد العام للصورة التي تفاعل بين كل هذه الدول المعنية بقضية التفاوض وعلى رأسهم دول الخليج، إذ أن قبول إيران نووية ولو من حيث الحد الأدنى يشكل خطراً استراتيجياً لا يجب التهاون معه، وهذا ما تتجاهله بشكل غير مبرر الولايات المتحدة الأمريكية إذ من الصعب جداً على دول الخليج أن تتعايش مع إيران نووية بأي شكل من الأشكال.

ولم يكن المطلوب من المفاوضات الوصول إلى اتفاق وحسب وتخطي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ومصالح حلفائها، بل تعزيز هذه المصالح وترسيخها، والتي تنسجم مع منع إيران من امتلاك التقنية النووية اللازمة لإنتاج أسلحة التدمير الشامل مستقبلاً، وما الاعتراف في أي مفاوضات حالية أو مستقبلية بإيران نووية إلّا ضرب من ضروب المجازفة الغير محسوبة بشكل جيد، على اعتبار أنها ستعزز من فرص نشوب نزاع إقليمي أو سباق تسلح على أقل تقدير، هذا فضلاً عن اعتبار إيران ذلك اعترافاً دولياً لها لإطلاق يدها في منطقة الشرق الأوسط.

هذا السيناريو يجب أن يتم تجنبه بكافة السبل، لاسيما وأننا أمام دولة ليست قانعة حتى اللحظة بموقعها الدولي والإقليمي الذي أخذته على مدى العقودالثلاثة ونصف الماضية، وبالتالي لابد من أن تترافق أي عملية تفاوض بين المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مع الجمهورية الإيرانية بحزمة واسعة من المحذورات الصارمة لا تنتهي عند وقف المفاوضات في حال الإخلال بالتعهدات التي أبرمتها إيران من المجموعة الدولية ووكالة الطاقة الذرية.

وهنا تكمن الإشارة الأهم، فالولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى جانب التلويح بالعقوبات إلى  تقديم تطمينات سياسية للحلفاء أنفسهم بدل إثارة الأسئلة عن انسحاب الولايات المتحدة وترك الساحة مفتوحة لاحتمالات قد لا تحمد عقباها، لها انعكاساتها على مجمل الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بل وعلى مجمل الأمن العالمي، لما يمكن لها من ترك ارتدادات بالغة الشدة في حال صدقت التحليلات بتراجع الدور الأمريكي في منطقة الخليج.

 إذاً الولايات المتحدة الأمريكية مطالبة بإبداء العزم والقوة على المواجهة الشاملة لأي أنشطة إيرانية مزعزعة للاستقرار في المنطقة وغيرها من التهديدات للمصالح الأمريكية بشكل شامل.

يستطرد مايكل سينغ الذي يشغل منصب المدير الإداري لمعهد واشنطن في مقال منشور على موقع المعهد في هذه الجزئية قائلاً: “وكجزء من هذه الركيزة في السياسة الإقليمية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تكثف من مشاوراتها مع حلفائها في المنطقة، بما في ذلك دول “مجلس التعاون الخليجي” والأردن وإسرائيل وغيرها، بشأن إيران والقضايا الإقليمية؛ ولا ينبغي أن يقتصر الأمر على مجرد اطلاع الشركاء على المستجدات لاحقاً بعد كل جولة من المحادثات، وإنما يتعيّن الاجتماع معهم مسبقاً للتأكد من التعامل مع مخاوفهم وتمثيل مصالحهم”.

هكذا فقط يصبح للكلام الأمريكي معنى ومساقط واضحة على الأرض، لا بل وتعود بالمردود السياسي بالغ الأهمية لصالح أمريكا وحلفائها خصوصاً الخليجيين منهم، بدلاً من ذلك التردد الذي تبديه إدارة أوباما، التي مازالت لا تعود بذلك المردود السياسي والاستراتيجي المطلوب لاسيما في مواجهة عدو من النمط الإيراني، فقد خذلت هذه الإدارة حلفاءها الأكثر موثوقية في حين كانت مطالبة ببناء الثقة مع الحلفاء والتنسيق معهم ووضع معايير مشتركة يتفق عليها الحلفاء للوقوف على أرضية واحدة.

الارتدادات السلبية للتردد الأمريكي على الملف الإيراني:

قد يكون من المطلوب قريباً من الولايات المتحدة الامريكية أن تبدي استعداداً لمناقشة سيناريوهات عسكرية فعالة وحاسمة للجم إيران عن تهديد جيرانها وحلفائها وهي مطالبة بهذا الاستعداد تماماً لذات السبب الذي يدفع بروسيا إلى مساندة حلفائها في أكثر من بقعة جغرافية على امتداد العالم، ليس في مجالها الإقليمي كأوكرنيا وحسب، بل على مستوى مناطق أبعد من ذلك كما في سورية.

ولعل هاتين القضيتين الأخيرتين أي القضية الأوكرانية والسورية يجب أن تشكلا مثالاً ساطعاً عن الارتدادات السلبية لأداء الإدارة الأمريكية المرتبك والمتردد، والذي يفسح المجال للتمدد الروسي، وربما في حال استمرار هذا الأداء تتجرأ إيران على ما هو أبعد من ذلك لاسيما بعد أن نشرت قوات لها في سورية فضلاً عما يذكر عن دورها الواسع في كل من العراق ولبنان، وبالتالي يمكن أن تشكل قضية واحدة على الأقل خطوة تنسيق فائقة التميز بين الولايات المتحدة وحلفائها ولاسيما المملكة العربية السعودية.

 قد تستسهل الولايات المتحدة مخاوف الحلفاء من مشروع إيران النووي وتقلل منها باعتبارها مخاوف مبالغ بها، ولكن إن صحت وجهة النظر هذه داخل الإدارة الأمريكية فإننا سنشهد انقلابات حادة في مستقبل الأيام تعيد فيها الولايات المتحدة دفع الفاتورة أضعاف مضاعفة جراء الاستهتار بتمدد قوة إقليمية غير قانعة بمكانتها الجيوسياسية نحو ملفات دولية بالغة الحساسية على ملف الطاقة العالمي ليس في منطقة الخليج فقط بل وفي منطقة بحر قزوين أيضاً، فضلاً عن تفجيرها للقلاقل الطائفية في آسيا الوسطى وأفريقيا، وربما ما وراء الأطلسي، نظراً لامتلاكها أيديولوجية عابرة للحدود وتبني لفكرة تصدير الثوة الإسلامية التي تبث الكراهية والطائفية ونشهد نتائجها في منطقة المشرق العربي اليوم في كل من العراق وسوريا على شكل احتراب أهلي تديره إيران بكل صفاقة.

تتناسى الإدارة الأمريكية أن للحلفاء حقوقاً ذاتية في تطوير قدراتها وأدواتها في الدفاع عن ذاتها وفي الاتجاه نحو تحقيق مصالحها كما ترتأيها في حال لم تشاركها الدولة الحليفة مخاوفها، وبالتالي ستسقط مع الزمن أي التزامات بين الطرفين ربما ستحتاجها الولايات المتحدة الأمريكية لاسيما على مستوى ملف القضية الفلسطينية أو حتى على مستوى تسعير موارد الطاقة بالتحديد الغاز والنفط، إذ أن استقلال أمريكا نفطياً وغازياً لا يعني تحكمها الكامل بأسعارها عالمياً إذ يمكن لدول الخليج أن تمارس دوراً هاماً في رفع وتخفيض أسعارها بالمرونة المطلوبة حتى المدى المنظور؛ وها هو مايكل سينغ مرة أخرى يذكر بأنه سيكون توجهاً خاطئاً فيما لو رفضت أمريكا مخاوف الحلفاء بشأن أنشطة إيران الإقليمية وغيرها من القضايا باعتبارها “مجرد قلق مبالغ فيه أو حتى مع اقتراب الولايات المتحدة تدريجياً وبشكل بطيء من الاستقلال في مجال الطاقة فإنه لم تعد هناك حاجة إلى الاكتراث لها إذ يمكن للحلفاء في المنطقة إضافة قدرات وعرض رؤى جديدة وتوفير التمويل وجلب هذه الاقتراحات إلى الطاولة بطرق يمكنها أن تعزز من المساعي الأمريكية، إن السماح باندثار تلك التحالفات قد يعني جهوداً أقل على المدى القصير، لكن سيثبت أنه أمر مكلف على المدى الطويل”.

ويقترح مايكل سينغ على الإدارة الأمريكية أن المكان الذي تحتاج فيه واشنطن إلى سياسة أكثر فاعلية واستباقاً بشكل عاجل – والذي سوف يحقق أقصى درجات الطمأنة للحلفاء ويردع إيران – هو سوريا؛ وعند تقييم الخيارات الجديدة التي طلب أوباما رسمها لسياسات الولايات المتحدة الخارجية هناك، يتعين على أوباما أن ينظر في أثر قراره على المصالح الأمريكية الأوسع نطاقاً في المنطقة.

لماذا سورية؟ لأنها العقدة الأكثر حساسية للأداء الإيراني خارج الحدود الإيرانية ومجالها الحيوي التقليدي في دول ذات غالبية شيعية تستطيع أن تجندهم وفق أيديولوجية الثورة الإسلامية بسهولة، بينما تبقى سورية من الناحية الطائفية ذات أغلبية سنية ولا تستطيع إيران أن تبث فيها الأيديولوجية الإسلامية على النمط الإيراني على نطاق واسع بقدر ما تحتاج إلى إدارة سورية متواطئة تمهد لها الطريق للهيمنة على المشرق العربي وتشاركها اسمياً بالنفوذ بينما يبقى النفوذ الحقيقي بيد طهران، وتستخدمه في تهديد الإقليم وابتزاز العالم وذلك على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وهذا له دلالة بالغة الأهمية ليس للولايات المتحدة الأمريكية وحسب بل لأوروبا أيضاً وعضو الناتو الأبرز في المنطقة ألا وهي تركيا.

إن التردد الذي يعتري أداء الإدارة الأمريكية لا يقابلها بالضرورة دعوة لأداء عسكري متعسف، بل يمكن أن تتبنى الإدارة الأمريكية أداءاً فعالاً جماعياً تحسب فيه وزناً لهواجس الحلفاء وأن تراعي مصالحهم، تضع إيران أمام تحديات جدية في حال تفكيرها بخرق الالتزامات التي وضعت نفسها أمامها.

خلاصة:

أخيراً لابد من التذكير بأن الولايات المتحدة أدرجت معظم دول الخليج في ارتباطات ومعاهدات سياسية وعسكرية، ليست بالضرورة تصب كلها في صالح دول الخليج، لذا كان ولابد أن يظهر هذا الاختلاف في المصالح عند مفاصل حساسة تمس الأمن القومي لكليهما ليكون عندها التباين ظاهراً في نقاط يصعب التراجع عنها؛ فقد يصدر عن إحداهما خطوات قد تتعارض مع رغبات الحليف الآخر، وهذا ما نلمحه بشكل واضح في التموضعات الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية في إدارة الرئيس باراك أوباما.

إن الولايات المتحدة الأمريكية وبالتزامن مع تطور تقنيات صناعة النفط والغاز الصخري المعروف بـ (الشايل) الذي رفع من مكانتها بين الدول المنتجة للطاقة تحاول تخفيف أعباء إنفاقها العسكري الذي يستهلك من خزينتها ومن رجالها وعتادها، فضلاً عن الكلفة السياسية التي تخضع لاعتبارات انتخابية داخلية، مع ميل الرأي العام إلى وقف التدخل الأمريكي ما وراء البحار.

وأحد الآراء تقول أن اتفاقاً مع إيران ينهي ملفها النووي مترافقاً مع تراجع أمريكي في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي، سيترك تداعيات على الإقليم وصعود دور لاعبين إقليميين تتقدمهم إيران، التي سينفتح المجال لها أكثر في تمددها نحو الخليج والبحر المتوسط اعتماداً على الفراغ السياسي الجديد، والتفاهمات التي يمكن أن تجريها مع الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الدولية.

بينما يلخص مايكل سينغ رأياً آخر مفاده بأنه من الصعب إنجاز أي اتفاق نووي مع إيران وسوف ينطوي ذلك على خيارات صعبة؛ لكن اتخاذ خطوات لتعزيز التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط ومعالجة أنشطة إيران الإقليمية المزعزعة للاستقرار سوف يسهل الوصول إلى اتفاق – من خلال إنذار إيران بأن الولايات المتحدة تتفاوض من موقف القوة والثقة ومستعدة لاتخاذ إجراءات للدفاع عن مصالحها – هذا إلى جانب تسهيل إقناع الحلفاء، من خلال طمأنتهم بأن الولايات المتحدة لا تنوي التوصل إلى اتفاق ثم الانسحاب من المنطقة؛ وعلى الجانب الآخر، إذا أهملت الولايات المتحدة الصورة الإقليمية الأكبر وركزت فقط على التوصل إلى اتفاق مع طهران، فقد تكون النتيجة نصر تكتيكي، ولكن هزيمة استراتيجية.

مركز المزماة للدراسات والبحوث

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى